بقلم : فديس محمد استاذ اللغة الانجليزية
“تيه” أدبي داخل “متاهات فريد زمانه”
نادرة هي الروايات التي تأسرنا كلماتها من أول عبارة، فبمجرد قراءتنا لأسطرها الاولى نجد انفسنا دون أن نشعر نقرأ اخر سطورها. فسلاسة وجمالية اللغة والتسلسل المشوق للأحداث يجعلنا نتابع القراءة الى اخر أسطرها حتى وان استدعى الامر الاستمرار في قراءة الرواية الى اوقات متأخرة من الليل. ففي أول ظهور له في الساحة الأدبية استطاع الكاتب خالد الملاحظ بأسلوبه المشوق ان يلفت انتباه القارئ ويزج به في دوامة احداث الرواية ليجد نفسه تائها وسط زخم أسئلة وجودية تتقاذفه مثل ما تتقاذف امواج البحر قاربا تائها وسط بحر هائج. فسؤال الهوية وحتمية الهجرة والم الاستبداد والفقر وعام الجوع وعقدة الشرف واوجاع الاستغلال والعشق الممنوع كلها مواضيع نسجت احداث الرواية في قالب سردي بالغ الروعة امتدت زمانيا من أربعينيات القرن الماضي الى العقد الأول من القرن العشرين.
احداث الرواية
استهل الكاتب روايته “بتسلل” من “طاحونة الروابي” وهي قرية في عمق الريف المغربي حيث قدم الراوي “الطفل” -الذي سنعرف لاحقا أن اسمه “فريد”- وصفا لطاحونة الروابي كما لو انه كان يتنبأ بمصير الشتات الذي كان القدر ينسجه له رفقة أسرته في قادم الايام.
بعد توالي سنوات الجفاف وجد والد فريد نفسه عاملا عند اقطاعي يدعى الحاج “موحند” في ارض اصبح الاقطاعي يعتبرها “ملكا” له بعدما كانت ملكا لوالد “فريد”. لم يشفع توسل والد فريد للاقطاعي “موحند” بعدم قطع اشجار الزيتون من ارضه المرهونة. استفزاز “موحند” ورغبته في اذلال والد فريد سيدفع هذا الاخير بان يهوي بمعوله على جمجمة الاقطاعي “موحند” ليرديه قتيلا على الفور. ستضطر اسرة “فريد” المكونة من والده وأمه “ارقية” و اخيه “محمد” والرضيعة “زليخة” الى مغادرة القرية هروبا من اهل الفقيد الذين حتما سيتفقدون والد فريد طلبا للثأر. بعد رحلة شاقة وجدت الاسرة نفسها في رحاب أهل كبدانة في ضيافة “عزي عياد” كما كان يدعوه فريد وخالتي “ترايتماس”. للعبور نحو الضفة الشرقية لنهر ملوية ثم دخول الجزائر للعمل في الضيعات الفلاحية. استقر الحال بالاسرة في دوار فقير ضواحي وهران يدعى دوار “عويوة”, ليحصل فريد ووالده على فرصتي عمل عند الفرنسيين. ظروف السكن المزرية وموت “محمد” الاخ الاصغر “لفريد” بمرض التيفويد ليتفاقم الوضع بعد وفاة والد فريد في ظروف غامضة. انتقل فريد الى العمل في اسطبل للخيول كمكافئة له على التدخل البطولي لكبح جماح خيل كاد يسقط “شارلوت” البنت المدللة لرب عمله موسيو “جوزيف”.
في زيارة الى منزل لثوار الجزائر بوهران رفقة “الغالية” بطلب منها، سيجد “فريد” نفسه رهن الاعتقال بعد مداهمة للشرطة الفرنسية بعد ان لاذ كل من في المنزل بالفرار من بينهم الغالية ذات الستين عاما. بعد عشر سنوات من الاعتقال سيعتنق فريد حريته سنة 1962 بعد استقلال الجزائر. شوق وحنين يدفعه بكل قوة لرؤية أمه واخته بعد 10 سنوات من المعتقل بيد ان الشوق والحنين سيتحول الى خيبة أمل بعد علمه بزواج امه بابن عمها “حميدوش” الذي كان غريما لأبيه لأسباب كان يعتقد فريد أنها قبلية. عاد فريد الى وهران يجر أذيال الخيبة دون ان يلتقي بامه واخته اللتان اعتقدتا ان فريد قد مات. عمل فريد حمالا للامتعة في ميناء وهران لفترة. وفي يوم بلغ منه الارهاق مبلغه سيغفو فريد داخل باخرة ليستفيق بعد ذلك على هدير محرك الباخرة وسط البحر. وصلت الباخرة الى مارسيليا وفريد دون وثائق تثبت هويته ولا تذكرة سفر. تخطى فريد حاجز الجمارك بعد ان قدمه احد الركاب على انه مساعده وان وثائق هويته قد ضاعت منه وان اسمه “محمد الهواري”. ما كان على سلطة الميناء الا ان تستخرج له وثيقة هوية باسم محمد الهواري. ركب القطار متجها الى مدينة ليل حيث ارغمه طقس “ليل” البارد بالاحتماء بمعطف كان قد اهداه اياه المسافر الفرنسي الذي قدمه امام سلطات الميناء على انه مساعده ليجد في جيب المعطف ظرفا يحتوي على مبلغ محترم. حصل فريد على عمل بمنجم حيث سيتعلم مبادئ النضال ليقود اضرابا داخل المنجم كلل بالنجاح لتتحسن اوضاع العمال. بعد اغلاق المنجم خلال الثمانينيات سيحصل فريد على تقاعد نسبي ليتفرغ لقراءة الكتب والجرائد لينتقل الى العيش في دار العجزة قبل ان يفارق الحياة تاركا “سبسي” والده ووصية للتبرع باعضاء جسده لكلية الطب وظرفا يحتوي على مذكراته موصيا بطبعها والتبرع بايراداتها لجمعية اصدقاء مرضى السرطان بالريف.
الهجرة وسؤال الهوية.
لم تكن السنوات القليلة التي قضاها “فريد” الطفل في مدشره “طاحونة الروابي” لتفارق ذكراه بل ظل المكان ظلا يلازمه طيلة حياته فقد كانت بمثابة نقطة الانطلاق ونقطة العودة التي لم تتحقق أبدا. مغادرة القرية كان بمثابة اجتثاث “لفريد” واسرته من جذورها. ليرحلوا قسرا فارين من جريمة قتل اقترفها والد “فريد” دفاعا عن ارضه وكبريائه. مسار الهجرة لم يكن مفروشا بالورود بل صار متاهات تزيد من التواءاتها تضاريس الريف الوعرة والخوف من خطر قد يداهم الاسرة المهاجرة في أي لحظة في مرحلة تميزت “بالسيبة” امام تردي الاوضاع الاقتصادية كما جاء على لسان فريد “لا ثقة مطلقة في الاخر. ومواقف الحيطة والحذر واجبة في ظرفية كان البقاء فيها للاقوى وسد رمق الجوع كان مبتغى الجميع” ص 30. انوار خافتة تنير عتمة المتاهات تلك التي يمثلها كرم اهل كزناية الذين جادوا على الاسرة بالطعام رغم قلته واهل كبدانة الذين ابانوا عن كرم وسخاء نادرين في زمن شهد مجاعة حصدت ارواح الكثيرين. لدرجة ان “الجياع كانوا يفتتون روث البهائم بحثا عن حبات قمح صالحة للاكل”. ص 35 كما جاء على لسان الكبداني “عيزي عياذ” مضيف اسرة “فريد”.
نهر ملوية كان بمثابة نهر “متوسطي” يحول بين من ضاقت بهم سبل الحياة وبين املهم في واقع افضل. كان نهر ملوية بالتواءاته التي اخذ منها اسمه يقف شامخا بين واقع الالم وغد مفعم بالامل. كان عبوره يستدعي قاربا ومهربين يحملون الذين فرضت عليهم الهجرة تحت جنح الظلام الى الضفة المقابلة ثم الى داخل الجزائر. أسئلة كثيرة ظلت تؤرق فريد في كل خطوة يخطوها رفقة اسرته نحو المجهول. ففي شاحنة ملئت مقطورتها بالمهاجرين او النازحين مكدسين مثل الخرفان. بؤس المشهد يدفع فريد لرفع رأسه لتأمل السماء. تأمل اخترقه سرب من الطيور المهاجرة. ليتحول السرب الى اسراب من أسئلة تقاطرت على ذهن فريد.
“اتراها مثلنا طيور مهاجرة؟”
“افقدت أعشاشها فاضطرت للرحيل؟” ص42
الهجرة لا تعني الخلاص كما جاء على لسان بطل الرواية “فريد” بل تظل “الهجرة معتقلا متحركا تعيش داخله اوجاع الارض والوطن”. تتعدد وتتنوع ادوات التعذيب في زنازين الغربة. تارة يكتوي قلب المغترب المهجر بلهيب الشوق الى الارض وتارة تلسعه الغربة فتنفث داخله سم الحيرة واليأس. فالهجرة مخادعة تستدرجك وترسم لك أحلاما وردية بواقع أجمل سرعان ما توصلك الى الحافة فتقذف بك داخل دوامة الاغتراب والشتات.
كان الوصول الى وهران نقطة مفصلية في حياة فريد، وهران الباهية ستغتال فريد “رمزيا” وتعيد انجابه من جديد. لكن قبل ذلك ترسله الى دوار “عويوة” ضواحي وهران حيث سيمر من مرحلة مخاض قبل أن يولد من جديد بهوية جديدة. هكذا هي الغربة. اما ان تتقبل هويتك الجديدة او سيكون الفناء مصيرك. فالغربة تعيد “تفصيلك” على مقاسها. أوقد تعيد تفصيل أكفان للمقربين كما حدث مع أخ فريد “محمد” الذي وافته المنية متأثرا بحمى التيفويد. ثم بعده اتى الدور على والد فريد الذي وجد ميتا في احدى الازقة في ظروف غامضة. بفقدان الاخ “محمد” والاب سقططت حلقتين من عقد الاسرة حتى صار الشتات مصيرها المحتوم.
ظلت عدة اسئلة عالقة بدون أجوبة وكأن الكاتب يريد ايصال فكرة مفادها ان الهجرة ليست دائما-كما نعتقد- قدرا دائريا يبدأ بالرحيل عن مسقط الرأس وينتهي بالعودة اليه.
على سبيل الختم
في قالب سردي جميل، استطاع الكاتب خالد الملاحظ فتح صفحة من صفحات جراح الماضي. حيث عاش المغاربة عموما واهل الريف بالخصوص احد اسوء سنوات الفقر والمجاعة خلال اربعينيات القرن الماضي. تعددت الاسماء بخصوص الفترة فهناك من يسميها عام الجوع او عام البون لكن الامر اليقين الذي لا يختلف عليه اثنان هو ان هذه الفترة ظلت موشومة في الذاكرة. بحيث حصدت عاصفة المجاعة ارواح المئات بينما اضطر اخرون الهروب من شبح المجاعة ليسقطوا بين مخالب الغربة والاغتراب. فهجرة فريد واسرته كان سببها الارض التي شحت خيراتها ولم تعد سخية ليضطر والد “فريد” الى رهنها الى اقطاعي جشع انتهى به الامر قتيلا على يدي والد “فريد” دفاعا عن ارضه. رواية تستحق القراءة فمن منا لم يكتوي بنار الغربة اما مغتربا او على الاقل تربطه علاقة بمغترب في بلاد المهجر.
فالهجرة في نهاية المطاف هي بمثابة ذنب “خيانة” للأرض يقترفه المهاجر قسرا بحيث تضل عقدة الهجرة وذنبها تلاحقانه. كلما عاد المهاجر الى وطنه يأتي محملا “بقرابين” عبارة عن هدايا تقربا الى الوطن الام وتكفيرا عن ذنب الهجرة.
مسيرة موفقة أخي ❤️ العزيز
ممتاز حماك الله ارجو لك النجاح والتوفيق
شكرا للكاتب المبدع الاستاذ خاىد الملاحظ، وشكرا للاستاذ فديس على قراءته الموفقة للرواية.
هو شعور لا يوصف أن يوشحك أحد الأصدقاء بقراءة نقدية لعمل أدبي بسيط كنت وراء توقيعه…
فكل الشكر والتقدير والامتنان صديقي فاديس على إبحارك النقدي الرائع لباكورتي الأدبية الأولى. لك ارفع القبعة ، صدقا كنت بارعا وأنت تغوص بنا بكل احترافية في أعماق متاهات فريد زمانه …