مراد علمي (*)
الصداقة والشراكة الصينية الروسية لها تاريخ متجذر في القدم، وموقف الصين تجاه حرب روسيا على أوكرانيا يعزز هذا الطرح، من الضروري النبش في أوراق الماضي لكي نفهم موقف الصين الحالي، بدون فك تشفير الماضي سيصعب علينا فهم ما يدور اليوم، وقعت الصين مع الإتحاد السوفياتي في فبراير 1950 ميثاقا يقضي بالدعم الكامل لفائدة الصين إذا حصل أي صراع مسلح مع الدول الغربية التي كانت تساند عسكريا كوريا الجنوبية في حربها ضد كوريا الشمالية.
حذرت الصين آنذاك الولايات المتحدة أن لا تعبر خط التوازي 38 والمتفق عليه كحدود للكوريتين، ولما هزمت قوات كوريا الجنوبية والولايات المتحدة جيش كوريا الشمالية تدخلت قوات جيش التحرير الشعبي الصيني بأكثر من 400000 جندي، فالصين لم تصرح أنها طرف في النزاع أو أنها تشارك بجيشها النظامي، ولكن كانت تسميه “جيش المتطوعين”، وهكذا تمكنت كوريا الشمالية بمساندة الجيش الصيني أن تتغلب على قوات كوريا الجنوبية والولايات المتحدة حيث اضطرا إلى الرجوع إلى خط التوازي 38 المتفق عليه سابقا.
وفي حرب الكوريتين كانت للصين مخاوف أمنية محضة، كروسيا اليوم، لأنها كانت تخشى أن تحاصر في الجنوب من طرف الاسطول الأمريكي السابع والمتواجد في مضيق تايوان والقوات الامريكية التي ستكون على مشارف حدودها الشمالية، وقد يكون هذا تهديد جسيم لتنمية اقتصادها وسوقها، لان العديد من المناجم والموارد الطبيعية توجد في الشمال، لا من خام الحديد، الفحم الحجري، الطاقات الكهرمائية وأراضي فلاحية خصبة، ويتعلق الأمر بمقاطعات “لياونين”، “دجيلين”، “هي لونك دجيان” و”منغولية الداخلية”، كما أن جميع الصناعات الثقيلة متمركزة ليومنا هذا في شمال الصين نظرا لوفرة المواد الطبيعية، وغزو اليابان للصين كان ورائه فرض السيطرة الكاملة على هذه الموارد الطبيعية في بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، ولكي تعطي اليابان لحكمها نوعا ما من الشرعية، نصّـبت هناك حكومة صورية عاصمتها “سين دجين”، يعني العاصمة الجديدة، المدينة الصينية الحالية اسمها “تشانك تشوون”، عاصمة المقاطعة “دجيلين”، وإن دلت هذه التجربة المرة بالنسبة للصين على شيء فهي تدل على مخاوف أمنية عانت منها من قبل إبان الاستعمار الياباني، لذالك فضلت المواجهة العسكرية ضد كوريا الجنوبية وحليفها الولايات المتحدة.
وكملاحظة جانبية، لابد أن نشير إلى أن الجنرال “ماك آرتار” المسؤول على تأطير جيش الولايات المتحدة في حرب الكوريتين طلب من حكومة الرئيس “ترومان” الإذن أن يقصف أكثر من 30 مدينة صينية بالقنابل النووية، ولكن رفضت الحكومة، نظرا للتجربة الحزينة في “هيروشيما” و “نكازاكي”، ونظرا لبشاعة هذه النقطة السوداء في تاريخ البشرية والصراعات المسلحة، فهذا يحسب للولايات المتحدة التي تخشى لومنا هذا حرب عالمية ثالثة تستعمل فيها القنابل الذرية والهيدروجينية.
لذلك تخشى لا الصين ولا الولايات المتحدة ظاهرة التصعيد حتى لا تذهب الامور إلى “ما تحمد عقباه”، لأن الرئيس الروسي هدد باستعمال جميع الاسلحة المتاحة له، لم يفشي سر هذا التهديد، ولكن يقصد في الاساس استعمال الاسلحة النووية إذا اقتضى الحال، وروسيا تعتبر أكبر بلد متوفر على ترسانة نووية مهمة، أكثر من 6200 صاروخ نووي، بيد أن الولايات المتحدة تملك تقريبا 5500، أما الصين 350 فقط، روسيا كانت تدرك دوما أن الضعف الديموغرافي، 144 مليون نسمة فقط، سيشكل نقطة ضعف بالنسبة لها، وهذا العامل هو ما دفعها إلى الاعتماد على الاسلحة النووية أكثر من غيرها.
الصين تتجنب الانزلاق إلى حرب باردة والتي في العمق لن تخدم مصالحها، لأنها في حاجة ماسة للاستثمارات الأوروبية، بالأخص الامريكية، الولايات المتحدة استثمرت مثلا أكثر من 120 مليار دولار في الصين في 2020، وفي عام 2019 تقريبا 120 مليار دولار، وفي عام 2018 وعام 2017 أكثر من 100 مليار دولار، بالرغم من حرب الرسوم الجمركية بين البلدين، والمبادلات التجارية بين الصين والولايات المتحدة لا زالت قائمة وجد مرتفعة إذ فاقت 450 مليار دولار في سنة 2020 في ما يخص صادرات الصين للولايات المتحدة، أما الولايات لم تنجح في كسب مبلغ مماثل، حيث استوردت الصين سوى 124 مليار دولار في عام 2020 من الولايات المتحدة، فهذا يعني اعتماد شديد للاقتصاد الأمريكي على الصيني.
والشركات الامريكية قوة ضاربة في مجال التشغيل للملايين من الصينيين، مطعم “ماك دونالتس” مثلا يقوم بتشغيل أكثر من 180000 صيني وصينية كما أن مبيعات هذه السلسلة لمطاعم الوجبات السريعة تفوق 20 مليار دولار كل سنة، بالنسبة ل “ستار باكس” نفس الشيء، وهذه المقاهي تستعين بشغيلة فاق عددها 60000، ولو الصينيون مدمنون على شرب الشاي عادة، لكن الشباب الصيني يريد الاحتذاء بنمط الحياة الغربية، وما هذه الظاهرة إلا تأثيرات العولمة التي لم ينجو منها أي بلد، فسياسة الانغلاق ستكون لها تداعيات جد سلبية بالنسبة لجميع اقتصادات العالم، بالأخص الاقتصاد الصيني الذي يعتمد أساسا على التصدير، وهي التي تحتل الصدارة بأكثر من 3 تريليونات دولار في سنة 2021، وتليها الولايات المتحدة وألمانيا بفارق شاسع، كما تحتل المركز الثاني عالميا في ما يخص الواردات بأكثر من تريليونين دولار من نفس السنة، كما تتبضع من أكثر من 150 دولة.
أما صادرات الصين للسوق الاتحاد الأوروبي فهي أكثر من 440 مليار يورو في عام 2020، و واردات الصين من سوق الاتحاد الاوروبي بلغت 203 مليار يورو في عام 2020، فهذا يدل على أن كل من مارس التجارة مع الصين إلا وكان الفائض أو الربح الوافر في مصلحة الصين، وهكذا يمكن لنا أن نقول أن الصين دولة عظمى في ميدان الاقتصاد والتكنولوجيا التي نقلتها من الدول الغربية وطورتها في مقاطعاتها بفضل وفرة اليد العاملة المؤهلة والمكونة محليا أو في جامعات غربية مرموقة، أما في الميدان العسكري فهي قوة متوسطة، لذلك يمكن القول أن هناك نوع من التكامل بين روسيا والصين، القوة العظمى عسكريا والقوة العظمى اقتصاديا.
بالنسبة للصين السوق الروسي سوق صغير مقارنة مع الاتحاد الاوروبي أو الولايات المتحدة، فالواردات من الصين لم تتجاوز 49 مليار دولار في عام 2020، أما صادرات روسيا للصين تقدر ب 54 مليار دولار من نفس السنة، والناتج الداخلي الخام لروسيا 1700 مليار دولار، و الدخل الفردي لا يتجاوز 11000 دولار، ل 144 مليون نسمة، فالناتج الداخلي الخام لإيطاليا يفوق مثلا ناتج روسيا الذي يبلغ 1900 مليار دولار، و الدخل الفردي 31000 دولار، ل 60 مليون نسمة فقط، أما الصين يبلغ الناتج الداخلي الخام 14000 مليار دولار والناتج الفردي 10000 دولار، مع العلم أن الصين تتربع على عرش الدول الاكثر اكتظاظا وكثافة سكانية، أكثر من 1,4 مليار نسمة، والصين لا تعترف بأي شيء آخر من غير لغة الارقام، وثقافة الارقام متجذرة في تاريخ المجتمع الصيني الذي لا يمتثل إلا إلى مبدأ الجدارة، بغض النظر عن بعض النواقص.
لهذا لا يمكن للصين أن تتخلى عن أسواق الدول الغربية، لا من كندا، أستراليا، المملكة المتحدة، الاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة، بالرغم من الدعم اللامشروط لروسيا أو اقتناء الغاز والنفط الروسيي الذي سيبلغ 100 مليار دولار خلال السنوات المقبلة، وصفقة الغاز الطبيعي لثلاثين سنة قد تصل إلى 400 مليار دولار، لأن الصين في حاجة للذي سيمول لها فرصة الصعود السياسي والرقي الاجتماعي، كما هي في حاجة للطاقة بغية تزويد اقتصادها بالوقود الضروري، لذلك تحاول الصين اليوم التوفــيـق بين الشراكة الاستراتيجية و المصالح المتبادلة التي تربطها بروسيا، ولا تريد في نفس الوقت أن تغضب الغرب ويطردها من أسواقه الثرية أو يفرض عليها عقوبات تجارية مجحفة، بالفعل هي اليوم في مأزق، لذلك شنت أخيرا حربا كلامية شرسة ضد العقوبات التجارية الغربية والتي يستغل الغرب في إطارها الشعب الروسي كرهينة، كما جاء على لسان خارجيتها.
الصين تستعمل تارة المهادنة، الانفتاح الاجتماعي النسبي، وتارة أخرى التصعيد الكلامي كأداة لمواكبة الازمة الروسية ـ الأوكرانية، لذلك سمحت لرواد وسائل التواصل الاجتماعي في أول الأمر استعمال كلمة “عملية”، الكلمة المشفرة ل “الحرب على أوكرانيا”، من بعد “توتر”، وبعد بضع أسابيع كان اللفظ “نزاع” مرغوب فيه، وفي آخر المطاف سمحت السلطات الصينية باستعمال كلمة “حرب” في “وي سين”، نظيره “فايسبوك” في الغرب، فهذا التوجه للاستهلاك الداخلي فقط.
كما أطلقت العنان لمؤثر صيني له أكثر من 30 مليون متتبع، حيث هاجم حلف الناتو الذي لا يخدم السلام لأنه في رأيه يزود أوكرانيا بالسلاح، ويطيل هكذا أمد النزاع ويعطل مفاوضات السلام، فبالنسبة له إن حلف الناتو يصب الغاز في النار، هناك مؤثرة أخرى اسمها “يا تزو دونك” من أب صيني وأم روسية تردد نفس الشيء ولكن بعبارات أخرى، حيث تستعمل حسابها كبوق للأغلبية الصامتة، فهي تقول أن بعض الدول لا تحب روسيا، ولكن لا تتجرأ أي دولة غربية أن تهاجم روسيا، لأن كل هذه الدول تخاف من الأخ الأكبر، ألا وهي الصين، أما بعض المحطات التليفزيونية الصينية ك “سي دجي تي في” تحاول أن ترضي الغرب وتتكلم بصريح العبارة عن “الحرب على أوكرانيا”.
في ما يخص المحافل الدولية كمنظمة الامم المتحدة فما زال ممثل الصين يمتنع عن تسمية الحرب على أوكرانيا ب “الغزو الروسي” أو ب “العمل العدواني”، مع العلم أن بعض الساسة الغربيين يتكلمون عن “إبادة جماعية” وعن بوتين ك “مجرم حرب” كما قال بايدن مثلا، و كعربون الصداقة الروسية ـ الصينية سمحت السلطات الصينية بعد بضعة أيام فقط من نشوب الحرب على أوكرانيا للقمح الروسي أن يدخل أسواقها، ولو كان محظورا لمدة فاقت 30 سنة، نظرا لبعض الشكوك المتعلقة بالبذور المستعملة، كما أمرت السلطات الصينية “ديدي”، شركة النقل الخاص، منافس شركة “أوبر” الامريكية، تأجيل الانسحاب من السوق الروسي قصد عدم تعكير الأجواء الاقتصادية بين البلدين.
بالرغم من جميع بلاغات المساندة، التعاطف ودعم الموقف الروسي لا زالت الصين جد حذرة وتتجنب ما أمكن أي مواجهة لا تخدم مصالحها أو مستقبلها، واللقاء الأخير عبر تقنية الاتصال المرئي بين “بايدن” و”سي دجين بينك” كان حامي الوسيط، ولكن في آخر المطاف اتفقا على تليين المواقف في بيان ختامي مشترك حتى لا يحصل أي انزلاق.
خلال هذه المكالمة حذر بايدن الرئيس الصيني أن لا يمد يد العون لروسيا، لا اقتصاديا ولا عسكريا، في حين أن الدول الغربية تزود أوكرانيا عسكريا بالأسلحة واقتصاديا بمليارات الدولارات، مغزى تحذيرات وتهديدات بايدن هي في الاساس الدفع بالرئيس الصيني “سي دجين بينك” أن يتدخل قصد إنهاء الحرب على أوكرانيا، لان الصين تملك أوراق عديدة لوقف النزاع الروسي ـ الأوكراني.
أما روسيا نفت أنها طلبت مساعدة اقتصادية أو عسكرية من الصين، لا يمكن لنا أن ندرك ما يدور في الكواليس، ولكن ما يمكن لنا أن نقوم به، هي تخمينات، تكهنات، محاولة فهم ما يجري، وحتى إن وافقت الصين أن تساعد روسيا، فسيكون هذا بطريقة خفية كما وقع في حرب الكوريتين، ولكن بفضل الأقمار الصناعية من المستحيل خدع أي كان، اليوم جميع الدول كتب مفتوحة، وفي مثل هذه النزاعات تكون الحقيقة هي الضحية الاولى.
هدف مكالمة بايدن هي في الاساس محاولة إلقاء الضوء على موقف الرئيس الصيني “سي دجين بينك” من الحرب على أوكرانيا، لأن الصين ترفض ليومنا هذا إدانة روسيا، كما تقر بالحفاظ على سيادة أوكرانيا وسلامتها الاقليمية ولكن في نفس الوقت تعترف بالمخاوف الأمنية لروسيا، لأنه إذا التحقت أوكرانيا بحلف الناتو ستصبح روسيا محاصرة من عدة جهات، في الشمال، الغرب والجنوب، ونفس المخاوف الامنية هي التي دفعت الصين أن تتدخل في حرب الكوريتين بعتادها وقواتها، وتعطش الصين إلى الطاقة الروسية، المصالح المتبادلة، القرب الجغرافي، التاريخ والتجارب المشتركة هي التي ستدفعها دوما إلى مساندة روسيا، حيث ذهبت الخارجية الصينية حتى صرحت أن “الشراكة الصينية ـ الروسية لا تعرف أي سقف”.
هدف مكالمة “بايدن” مع “سي دجين بينك” هي كذلك محاولة دفع الصين للابتعاد عن روسيا، ولكن حتى الهند لم تدين روسيا أو تبتعد عنها لحد الآن، لأن الهند في حاجة ماسة إلى المعدات العسكرية الروسية، واردات الهند في هذا القطاع يتجاوز %50 من إجمالي جميع العتاد الحربي، وهي تمشي اليوم على خيط رفيع حتى لا تعصف بمصالحها الحيوية في روسيا، عادة الهند عدو لدود للصين جراء نزاع حدودي في جبال الهيمالايا، وها هما اليوم في معسكر واحد، تضارب المصالح أحيانا هي خاصية جميع الدول، طال الزمن أو قصر ستضطر لا روسيا ولا أوكرانيا إلى طي صفحة المواجهة المسلحة ونفخ الروح في محادثات السلام بغية مسك العصا من وسطها.
(*) أستاذ جامعي سابق في “خوفاي” و”تشون تشينك”، الصين