أسدل الستار على انتخابات ثامن شتنبر، التي جرت ولأول مرة في يوم واحد بمستوياتها التشريعية والجهوية والجماعية، خلافا لما كان معمولا به منذ أول تجربة انتخابية في مغرب الاستقلال. وهذه النقلة الديمقراطية والانتخابية النوعية من شأنها ترسيخ الخيار الديمقراطي وتقويــة لحمة البناء الانتخابي، وإضفاء المزيد من الثقة والمصداقية على انتخابات تضررت طيلة سنوات خلت من جائحة النفور والعزوف، نتيجة ما آلت إليه الممارسة السياسية برمتها من مظاهر العبث والأنانية والمصلحة وانعدام المسؤولية واللغط والجدل، بكل ما لذلك من تأثيرات عميقة على المؤسسات التي ظلت موضوع سؤال حول “القوة” و”المصداقية”. وهذه الانتخابات جرت في ظل جملة من المتغيرات، ارتبطت بسياقين مترابطين ومتفاعلين:
– أولهما: سياق وطني، يرتبط بالأوضاع الوبائية ذات الصلة بجائحة كورونا، التي كانت لها تأثيرات متعددة الزوايا على عدد من القطاعات الحيوية، كالصحة والتعليم والشغل، والتعديلات التي طالت القوانين المؤطرة للعملية الانتخابية، التي همت بالأساس اعتماد “القاسم الانتخابي” و”العتبة الانتخابية”، إضافة إلى ما انخرطت فيها الدولة من رهانات تنموية ذات طابع إستراتيجي، مرتبطة بورش الحماية الاجتماعية ومشروع النموذج التنمـوي الجديد وما سيرتبط به من برامج ومشاريع تنموية كبرى.
-ثانيهما: سياق إقليمي ودولي، مرتبط بمتغيرات قضية الوحدة الترابية للمملكة منذ الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، ونجاعة الدبلوماسية المغربية التي باتت تجمع بين الواقعية والجـرأة والمسؤولية والفاعلية؛ فضلا عن توتر العلاقات الدبلوماسية مع عدد من الدول كإسبانيا وألمانيا، وخاصة مع جارة السوء الجزائر التي مازالت مصدر تهديد لأمن المغرب ووحدته واستقراره، دون إغفال نجاحات المملكة في الانخراط في المزيد من العلاقات الاقتصادية والأمنية والإستراتيجية الــوازنة مع عدد من البلدان الشقيقة والصديقة.
بالرجوع إلى النتائج المسجلة، خاصة في بعدها التشريعي، فالملاحظة البارزة للعيان هي التراجع المهول لحزب العدالة والتنمية الذي ليس فقط مني بهزيمة مدوية في عدد من المدن التي شكلت معاقل تاريخية للمصباح، وعلى رأسها العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، وعروس الشمال طنجة، ومكناس والمحمدية ومراكش، بل وتراجع بشكل غير متوقع إلى المرتبة الثامنة في سلم الترتيب بما مجموعه 13 مقعدا فقط. وربما حتى أشد اليائسين والرافضين لم يكـن يتوقع هذه النتيجة المتواضعة، بل والمتواضعة جدا، التي سلبت من الحزب حتى إمكانية قيادة المعارضة البرلمانية والتأثيـر فيها. وهذا التراجع “المتوقع” قد يربطه البعض مباشرة بنوع من “التصويت العقابي” على الحزب الذي فقد الكثير من الشعبية والإشعاع، ولم يعد جذابا حتى بالنسبة للكثير من مناضليه الذين لم يجد بعضهم بدا من الاستقالة أو شد الرحال نحو أحزاب أخرى.
وإذا ما أردنا أن نفكك بنية هذه الهزيمة النكراء، فيمكن ربطها بعدد من المحددات الحاسمة، منها تنامي التيارات الرافضة والساخطة على الحزب وقيادييه، نتيجة تحمل مسؤولية التدبير الحكومي لمدة عشر سنوات مرت عجافا حسب تصور الكثير من المواطنين، تم من خلالها تمرير بعض القرارات اللاشعبية، على رأسها “ملف التقاعد” و”ملف التعاقد بالتعليم” و”إصلاح صندوق المقاصة”، إضافة إلى حالة الانقسام التي امتدت إلى الحزب بسبب الاستوزار، وتداعيات بعض الملفات الحساسة، منها على الخصوص “تقنين الكيف” و”التطبيع”، دون إغفال تعمق بؤرة الرفض للحزب لما صدر عنه من قرارات مرتبطة بتدبير جائحة كورونا، سواء تعلق الأمر بقرارات الإغلاق أو بـ”قرارات منتصف الليل” التي أربكت حياة المغاربة، أو بقرارات منع بعض الأنشطة المهنية والخدماتية بشكل جزئي أو كلي، كالحمامات وتموين الحفلات والقاعات الرياضية والنقل والمطاعم والفنادق وغيرها، بشكل تضررت معه شرائح واسعة من المواطنين؛ أو بما عاشه قطاع التعليم من احتقان متعدد الزوايا، دون تقديم الحلول والبدائل الممكنة لإعادة الاعتبار للشغيلة التعليمية التي تعد محرك الإصلاح وصمام أمانـه.
ومن بين الأسباب الأخرى التي تفسر هذه الهزيمة المدوية أن الحزب عاش حالة انقسام فعلي وصل إلى حد الخصام، نتيجة ارتباط المصباح بأشخاص يتحكمون في حركات وسكنات الحزب؛ ونخص بالذكر الأمين العام السابق “بنكيران”، والأمن العام الحالي “العثماني”، في غياب “الحكماء” أو “الحكيم” القادر على ضبط إيقاع الحزب وصون اللحمة الداخلية. يضاف إلى ذلك، أن الحزب ظل محتفظا بنفس الخطاب السياسي، الذي ظل وفيا كل الوفاء لمصطلحات الهجوم والمظلومية والإقصاء والأخلاق والفضيلة والنزاهة ومحاربة الفساد والريــع، خلافا لواقع الممارسة، بدل التواضع والخضوع لنقد ذاتـي، بشكل يضمن تطوير آليات ووسائل العمل التي من شأنها تقديم خطاب سياسي حقيقي وواقعي ينسجم وخصوصيات المرحلة، يرتبط بالمعيش اليومي للمواطن وانشغالاته، وبما ينخرط فيه الوطن من رهانات تنموية ذات طابع إستراتيجي، وبالمصالح العليا للوطن وقضاياه المصيرية.
ولا أبلغ من صورة بعض قياديي الحزب الذين خرجوا خرجات انفعالية غير محسوبة العواقب قبيل نهاية الحملة الانتخابية، موجهين مدافعهم غير الثقيلة صوب حزب الحمامة، وخاصة في شخص رئيسه عزيز أخنوش، وهي خرجات كانت عاكسة ليس فقط ما يعيشه الحزب من شرود وتيه سياسي وانعدام في الرؤية، ومن إحساس مسبق بالخيبة والهزيمة المتوقعة، بل ولحالة عدم الانضباط وعدم الالتزام التي وصل إليها، إلى درجة أن كل قيادي “بات يغني على ليـلاه” يخرج متى شاء ويقصف متى شاء دون أي ضابط سياسي وأخلاقي؛ وبعضهم لم يجد حرجا أو حياء في الدفاع الشرس عما يتلقاه من ريـع سياسي يسيل اللعـاب، دون إغفال الانزلاقات السلوكية والأخلاقية لبعض القياديين، وإن كانت تدخل في نطاق الحياة الخاصة والحقوق الشخصية.
وإذا ما تركنا كل هذه المعطيات جانبا، فقد تم تسجيل عدة مؤشرات سابقة كانت توحي بأن خريطة سياسية وانتخابية آخذة في التشكل والتبلـور ربما لم يلتفت الحزب إليها، ونخض بالذكر انتخابات المأجورين وانتخابات الغرف المهنية، التي كرست نتائجها أن حزب المصباح سيقل بريقـه في استحقاقات ثامن شتنبر. والأكيد أن الشعب الذي منح الصدارة لحزب العدالة والتنموية في مناسبتين هو الذي أزاحه أو كبح جماحه أو وضعه في حجمه الطبيعي في انتخابات 2021، ما يضعنا أمام متغيرات في السلوك الانتخابي ستفرز خريطة انتخابية وسياسية جديدة. وإذا كان البعض شبه ما حصل للحزب من هزيمة نكـراء بالمسارات الثلاثة التي تقطعها الدول حسب النظرية الخلدونية، فإننا نزكي هذا الطرح، أخذا بعين الاعتبار أن الحزب مر بمرحلة التأسيس ثم الصعود والقوة، وانتهاء بمرحلة السقوط والاندحـار، كما حدث لأحزاب أخرى عريقة من قبيل الاتحاد الدستوري والاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية. وبدرجة أقل حزب الاستقلال الذي بدأ يسترجع العافية السياسية، فضلا عن أحزاب أخرى مازالت تبحث عن ذاتها، مكتفية بلعب دور المنشط السياسي والانتخابي، في انتظار متغيرات انتخابية جديدة، قد تتحرك معها عجلة الطموح في الصعود والارتقاء في السلم الحزبي والانتخابي الذي مازال يحتكره الكبار.
وإذا ما أردنا الرجوع عشر سنوات إلى الخلف، نـرى أن موجات “الربيع العربي” التي شهدها العالم العربي سنة 2011، وامتدت آثـارها إلى المغرب، عبدت الطريق السيار أمام بنكيران وإخوانه الذيـن ركبوا على الموجة، مستغلين ما رفع وقتها من شعارات مطالبة بمحاربة الفسـاد والحرية والشغل والكرامة، وظهروا بمظهر المنقذ القادر على إحداث التغيير الذي يتطلـع إليه المغاربة، حاملين يافطات الدين والأخـلاق والقيم والنزاهة والتقوى والفضيلة والاستقامة، فاختارهم المغاربة عن وعـي وحسن نيـة، بعد أن توسمـوا فيهم الخيـر والإصـلاح المنتظر، فقادوا الحكومة في ولايتيـن متتاليتين؛ لكن لم يكونوا في الموعـد وخسروا الرهان، بعدما زاغوا عن السكة على مستوى الممارسة والسلوك والخطاب، وتذوقـوا عسـل الريـع وحلاوة المناصب والمكاسب والكراسي، بل وتنكـروا للشعب الذي عبد لهم طريـق الحكومة في مناسبتين، بناء على ما مـرروه من قرارات لا شعبية، قـوت بؤر الرفض واليـأس والمعارضة والنفــور، لتكون النهاية مدوية، بل وقاسية جدا، إلى درجـة أن الأمين العام للحزب ورئيس الحكومة “سعد الدين العثماني” عجز عن انتــزاع مقعد برلماني في دائـرة “المحيط” بالرباط. ونتوقــع أن يرتفع منسوب الاستقالات داخل الحزب، وترتفـع معه جرعات المظلومية والتشكيك، بـدل الاعتراف بالهزيمة، والبحث عن أسبابها ومسبباتها.
الهزيمة المدوية لـ”المصباح” وازاهـا انتصار كاسح لـ”الحمامة” التي حلقت بعيدا بما مجموعه 97 مقعدا حسب المعطيات التي أدلى بها وزير الداخلية في الساعات الأولى من صبيحة يوم الخميس التاسع من شتنبر الجاري، متبوعة بـ”الجرار” الذي تحركت عجلاته بقـوة بما مجموعه 82 مقعدا، ثم “الميــزان” الذي توقفت عقاربه عند مستوى 78 مقعدا، تلته “وردة” الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بما مجموعه 35 مقعدا. وبدرجات ومستويات مختلفة، تربعت على التوالي “السنبلة” و”الكتاب” و”الحصان”، فيما اندحـر “المصباح” إلى الـوراء بما مجموعه 12 مقعدا، كما تمت الإشارة إليه؛ وهو نفس عدد المقاعد الذي حصلت عليه الأحزاب المتبقية، التي اتضح أنها ستنشط البطولـة تحت أضـواء “المصباح”.
وهذه المتغيرات الانتخابية الجديدة التي منحت الصدارة لـ”الحمامة” و”الجرار” و”الميزان” و”الوردة” يمكن تفسيرها بالتراجع المهول لـ”المصباح”، الذي ترك مكانه لأحزاب أخرى تقدمت في سلم الترتيب نتيجة “التصويت العقابي”، كما يمكن تفسيرها بكون الأحزاب الأربعة الأولى جنت ما قامت به من تجديد للخطاب السياسي وقرب من المواطنين، وما أبلتـه من بــلاء حسن في الحملة الانتخابية على مستوى أدوات التواصل والإقنــاع والتعاقد مع المواطنين على برامج انتخابية واعدة وطموحة، في وقت انشغـل بعض قيـاديي “المصباح” بخرجات عابثـة فاقدة للبوصلة، كانت ترمي إلى قصف “حمامة أخنوش” التي حلقت بعيـدا، وكأنهم يستعملون آخر أسلحتهم، قبل الاستسلام والقبول بالهزيمة المــرة.
نكسة “البيجيدي” هي درس ما فوقه درس لكل الأحزاب السياسية، التي لا مناص لها إلا خدمة المواطن والوضوح معه والقرب منه والإنصات إلى مشكلاته وانشغالاته والاستجابة لتطلعاته وانتظاراته، خاصة بالنسبة للأحزاب التي تتحمل مسؤولية التدبيـر الحكومي. والحكومة المرتقبة التي ستحمل وبدون شك بصمات الجرار والميزان والوردة تحت رئاسة الحمامة، إذا لم تظهر سيناريوهات أخــرى ستكون أكثر انسجاما ووحدة، وهي مطالبة بعد التنصيب الملكي لرئيسها ببلـورة برنامـج حكومي يستوعب كل المشاريع والوعــود التي قدمتها الأحزاب المعنية للناخبين بمناسبة الحملة الانتخابية، وأن توحد طاقاتها وكفاءاتها لخدمة المواطن الذي أصبح يتملك سلطة “التصويت العقابي” أكثر من أي وقت مضى، ولن يتـردد في استعمال هذا السلطة المحرجة في الاستحقاقات القادمة، إذا عجزت الأحزاب المرتقب أن تشكل الحكومة عن تحقيق التزاماتها ووعــودها الانتخابية. لكن ليس معنى هذا أن المواطنين سوف يسلمون المفاتيح للوزراء الجدد، بل لا بد لهم أن يواكبوا عمل الحكومة وتتبع ما ستقوم به من منجـزات وما ستفتحه من أوراش، من باب الرقابة الشعبية على العمل الحكومي.
في جميع الحالات الانتخابات ليست غاية في حد ذاتهـا، وإنما “وسيلة لإقـامة مؤسسات ذات مصداقية، تخـدم مصالح المواطنين، وتدافـع عن قضايا الوطـن”، كما أكد ذلك الملك محمد السادس في خطاب الذكـرى 68 لثورة الملك والشعب، من منطلق أن الدولة تكون قوية بمؤسساتها، وبوحدة وتلاحم مكوناتها الوطنية؛ وهذا يشكل سلاحا ناجعا للدفاع عن البلاد وقضاياهـا المصيرية، في وقت الشدة والأزمات والتهديدات. ونــرى أن الحكومة المرتقبة ستتوفر فيها كل شروط الوحدة والقوة والمصداقية والتجانس، وستكون معززة بأغلبية برلمانية مريحة جـدا، وما عليها إلا أن تتحمل مسؤولياتها كاملة، لتكون في مستوى تطلعات الملك وانتظارات الشعب الذي يحتاج إلى تغيير حقيقي أكثر من أي وقت مضى، وفي مستوى ما ينتظره المغرب من رهانات تنموية كبــرى مرتبطة بالأساس بورش الحماية الاجتماعية والنموذج التنموي الجديد، ومن تحديات كبــرى مرتبطة بقضية الوحدة الترابية للمملكة، وبتعزيز مكانة وإشعاع المملكة في محيطها الإقليمي والدولي. وعموما فـ”المصباح” لا بد أن يعترف بالهزيمة المدوية بـروح رياضية، وأن يقطع مع خطاب المؤامـرة والمظلومية والتشكيك، وأن “يعيد النظـر في خطاب سياسي قـاده ذات يـوم إلى قسم الهـواة بلغة كرة القدم”.
ونحتم بالقول إن الفائز والمنتصر هو الديمقراطية المغربية والوحدة الوطنية والتميز المغربي في محيطه العربي والإفريقي، مع تمنياتنا بالتوفيق للأحزاب السياسية التي ستقـود التجربة الحكومية المقبلة. ونفس التمني نضعه بين أيادي جميع المجالس الجهوية والجماعية المرتقبة، التي لا بد لها أن تكون قريبة من المواطن وخادمة له، وأن تتحمل مسؤولية قيادة قطار التنمية المجالية في زمن النموذج التنموي الجديد، بالشكل الذي يضمن الارتقاء بمستوى عيش السكان والتقليص من حجم التفاوتات المجالية والفوارق الاجتماعية، في إطار من المواطنة والمسؤولية والتضحية والنزاهة والاستقامة ونكران الذات.