لم أكن بحاجة إلى إطلالة “فكرية” إن صح القول من السيد محمد أوزين لأكتشف سعة مداركه، أو تمكنه من أدوات التحليل أو إتقانه للغات عديدة من عربية وأمازيغية وفرنسية وإنجليزية، وقد يكون أكثر، لأنني أعرفه حق المعرفة لاشتغالي معه داخل الحزب والبرلمان، وكذا في محطات، صال فيها وجال، وهو يقارع، دون تعثر، مواضيع مستعصية بتحليل هادئ ومتزن ينم عن تمكنه بأدواته، وبلغة بل لغات ثرية من حيث ثرائها اللفظي وبعد دلالاتها، وكأننا أمام مثقف وازن يمتلك أسلحة سبر أغوار الذات والكيان والمواضيع الشائكة.
وكم كانت مفاجأتي، يوم أمس، وقد أطل علينا، دون عادته، (وله الحق في ذلك) بموضوع يكتسي أهمية بالغة لدى المراقب والمتتبع والمثقف وصانع القرار على تعدده.. إن لم أقل لدى الجميع بما يكتسيه من راهنية أولا ومن تعقيدات يصعب فك طلاسيمها دون فهم علاقة الدولة المغربية في تطورها التاريخي، لكن بأسلوب لغوي، لم يكن بقادر، في نظري، على الإحاطة بموضوع ذي أبعاد ومضامين سيكولوجية وسوسيولوجية واقتصادية وسياسية وثقافية وتربوية.. كل هذا في إطار تداخل بين التاريخ والمجال.
إن إجراء مقاربة دقيقة وعميقة لموضوع كهذا، قديم/جديد، يثير إشكالات قد يصعب فهمها وسبر أغوارها دون الاستعانة بمدارك معرفية واسعة وبأدوات التحليل على تنوعها وتعددها.
ولعل من حسنات مقالة السيد أوزين الأولى هي اختزالها لدعوة مبطنة إلى مصالحة حقيقية بين الدولة والمواطن وبعبارة أخرى إلى تقريب العلاقة بين الدولة والمواطن على هدي منظومة قيمية جديدة تتصدرها الثقة باعتبار الدولة، بالمفهوم الفلسفي، تعبير سامي عن الضمير الجماعي الذي ينصهر فيه المواطن على اختلاف ولاءاته وانتماءاته الاجتماعية والفكرية وانتظاراته.. وهنا يكمن، من باب الاختصار، مربط الفرس. فعلى الرغم من انخراط الدولة، منذ تسلم صاحب الجلالة مقاليد الحكم، في مسار جديد واعد، يتوخى إرساء أسس متينة لنمط جديد للحكم من خلال الأوراش الإصلاحية الكبرى شملت المنظومة القانونية المؤطرة لكل مستويات الدولة وتدخلاتها وبرامج تنموية اقتصادية واجتماعية استراتيجية وغيرها، فإن ثمة سلوكات قد نلمسها هنا وهناك تثير استفهامات عريضة، إن لم أقل حيرة، لدى المراقب اليقظ المتتبع لتطور علاقة الدولة بالمواطن كنتاج طبيعي لأدائها باعتماد أدوات محددة لقياس نبضات هذه العلاقة (سلبية، أو إيجابية) وفق المؤشرات المتاحة.
وقد لا تعكس هذه السلوكات، أحيانا، وعيا يتماثل، كتغذية استرجاعية، مع مرامي الأوراش الإصلاحية الكبرى المهيكلة التي انخرطت فيها الدولة منذ أواخر التسعينات، والتي ترتكز، بالنظر إلى أسسها وأبعادها، على المواطن كعنصر محوري ومحدد لمآلها. فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة بين سلوك يتميز، أحيانًا ولو لدى فئة محددة، بالنزوع إلى الرفض غير الرفض دون وعي بسببه، كما حاول إبراز ذلك السيد أوزين في مقالته الأولى من خلال أدلة محددة، مقترحا في مقالته الثانية إرساء التفاعل الاجتماعي على أسس تتوخى البناء والتقدم وتتحاشى الهدم والتقويض من خلال التأسيس لثقافة الاختلاف لدمقرطة آليات اشتغال الضمير الجماعي كمؤطر للسلوك الاجتماعي.
ومن هنا، فإن الضرورة التاريخية والموضوعية تقتضي منذ الأمس وقبل اليوم، إن جاز التعبير، “شحذ” الأقلام واستنفار المثقف/المتعدد وانخراطه الفعلي والفعال في ورش لا يقل أهمية عن الأوراش الإصلاحية الكبرى للدولة من أجل إذكاء ثورة ثقافية هادئة من أجل مجتمع ديمقراطي حداثي يتسع للجميع أن يكون الاختلاف دعامة أساسية لكل عمل تنموي واعد ينخرط فيه الجميع إلى جانب الدولة بجميع تجلياتها كتعبير أسمى عن الضمير الجماعي.