بقلم : شفيق عنوري
دخن سجارة ونظر إلى الناس من حوله.. حدق في الحافلة وصعد إليها.. توجه نحو آخر المقاعد واستلقى لينام.. كان رجلا في حالة يرثى لها، نحيل الجسم، أسمر اللون، متجعد الوجه، أشعثا، أغبرا، تفوح منه رائحة “قذرة”.. انطلقت الحافلة عند تمام الساعة الخامسة والنصف من يوم الخميس 15 فبراير، من محطة وجدة، متوجهة نحو طنجة شماله.
قبيل منتصف الليل، دخلت الحافلة مدينة فاس، صعد منها خمسة إلى ستة أشخاص، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والعشرين إلى الأربعين، جلسوا في المقاعد الفارغة في الآخر.. وما هي سوى لحظات حتى سمعت جدالا حادا من ناحيتهم: “أنزله من الحافلة.. هذا المتسخ تفوه منه رائحة “البول”.. هل “تغوط” على نفسه؟ ما هذا المكان.. تبا لكم أنزله من هنا.. لا نريده هنا.. هل ستضيع راحة خمسين شخصا بسبب شخص واحد! حاول مساعد السائق تهدئتهم بقوله: “إنه مريض فأرجوا أن تصبروا قليلا”!
رائحة دخان السجارة ليست غريبة عني، لكن أن أشمها في الحافلة بدت مفاجئة.. استدرت لأرى مصدرها.. لم يكن “الأحمق”، أو على الأقل من جعله القهر يبدو كذلك، بل كان أحد الممتعضين من تواجده، حيث صرخ قائلا بعد أن طلب منه مساعد السائق إطفاء السجارة: “لقد دوخنا برائحته وانقضى صبرنا، الآن إما أنك ستنزله أو أني لن أطفئ الدخان”.
نهض شاب أربعيني يجلس في منتصف المقاعد، وشرع هو الآخر في السب والشتم، مطالبا بطرد الشخص الذي تفوح منه هذه الرائحة فورا ودون تأخير! قائلا:”ارموه خارج الحافلة”.. لقد كانت الساعة تشير إلى الثانية ونيف صباحا، كنا على مقربة من مدينة ” سيدي قاسم”، حاول أحدهم طرده عنوة.. هنا سمعت أول كلمات الشخص، يقول: “أرجوك لا ترمني هنا أرجوك”!
حاول مساعد السائق تهدئة الركاب الآخرين الغاضبين من رائحة السجارة، والذين طالب جلهم بإنزال المسبب الرئيسي للمشكل؛ “الأشعث”، في شبه إجماع! حتى أن أحدهم قال متهكما:”أتعلمون لما لا يود السائق إنزاله.. لأنه هو مالك الحافلة.. وأتبع كلامه بضحكة طويلة”.. بالرغم مما يجري لم يتوقف السائق، إلى أن وصل إلى نقطة تفتيش للدرك.
خرج جل الركاب باستثاء سبعة أو ثمانية، وبدأو يشكون “حالتهم” للدركي! حاول الأخير تهدئتهم، لكنهم تشبثوا بضرورة إنزال “الأشعث”.. غير أن طلبهم قوبل بالرفض. أقلعت الحافلة واستمر الركاب في احتجاجهم على السائق ومساعده إلى غاية توصلهم لحل وسط، وهو إدخاله مع الأمتعة! فتم ذلك رغم أن الشخص الثلاثيني السابق الذكر، كان متحفظا على هذا، حيث سمعته يردد:” سيبعثر كل أمتعة الركاب!!”. عموما بدأ الناس يحمدون الله أن خلصهم منه! وسمعت قهقهات من هنا وهناك.. وضحكات شامتة! تستبشر بذهاب الرائحة!
نطق شاب في الأربعينيات: “هذا ليس إنسانا بل مخلوق جاء من الفضاء”، مضيفا بطريقة ساخرة “لقد أزكم أنوفنا برائحته، لو أني أتيت بأمتعتي لصببت عليه ماء وألبسته سروالا!”، وضحك جل الركاب.. في تلك اللحظة سمعت المرأة الثلاثنية التي تجلس خلفي رفقة طفلها وأمها، تقول بعد موجة من “الكهكهة” : “بدل أن ينزل الدركي الشخص بدأ يضحك!” ،تلفظت الكلام وهي غاضبة! في حين كانت تردد الأم “الله يحسن العون”.
استمر الحديث عن ” الأشعث”، رغم تواجده مع الأمتعة، “متسخ.. متعفن.. مخلوق فضائي.. لا يجب أن يركب أمثال هؤلاء معنا.. أين هو القانون؟ مشكلتنا في المغرب أنه ليس هناك تطبيق صارم للقانون؟ أين التفتيش لإنزال مثل هؤلاء؟”.
سمعت الناس تتحدث عن “الدين”، وتذكر أحاديث الرسول الكريم؛ في الطهارة والنظافة! وقالت الجالسة خلفي! الطريق واضح ” لي مزيان مزيان ولي ماشي مزيان ماشي مزيان!”، دون تمييز ما هو “المزيان” ، ما هو الحق؟!
قبيل الوصول إلى طنجة في الساعة السادسة صباحا، أوقف السائق القطار، وطلب من “الأشعث”، الصعود.. بمجرد صعوده.. بدأ الصراخ من نفس الأشخاص السابقين، مطالبين من السائق إرجاعه حيث كان. لكنه لم يلتفت إليهم، واستمر في القيادة.. اقترب منه أحدهم.. فنظر السائق إليه غاضبا وصرخ في وجهه “اجلس فقد تماديت”، ونطق السائق قائلا: “الشخص لم يرفض تغيير حاله، بإنه لا يفعل هذا لأنه أحبه ؟ إنه مسكين”!
وصلنا إلى طنجة في الساعة السادسة والنصف من صباح الجمعة.. نزل الجميع.. كل مضى في طريقه.. رحلة استمرت لثلاثة عشر ساعة، نصفها حمل درسا بليغا؛ ليس كل “البشريين”، “إنسانيين”؛ حتى بين الطبقات الوسطى والفقيرة هناك؛عنصرية وطبقية..!
هدا هو حالنا نحن العرب لو كان هدا الانسان الاشعث مع النصارى لنظفوه و كسوه