محمد الريفي
حينما يحل وزير بالريف يستقبل بالهتاف و الفولكلور المحلي و الاجواق التي ترقص على نغمة الغيطة و المزمار و الطبل و البندير، و تعتبر آلة الغيطة من الآلات الموسيقية التي تستعمل لاستقبال السادة الوزراء و الاحتفاء بمقدامهم.
و قد حدث في الثمانينيات أن تم اخبار سكان أحد القبائل الكبرى بالريف على أن السيد وزير التجهيز آنذاك سيزورهم و يدشن انطلاق ألأعمال في تشييد طريق معبدة، كانت القبيلة في أمس الحاجة اليها لفك عزلتهم و ربطهم بالعالم الخارجي. كان سكان هذه القبيلة ينتقلون على ظهر البغال و الحمير للتوجه الى المدينة المجاورة و الاسواق، و يعانون يوميا أشد المعاناة في تنقلاتهم. فرحوا فرحا شديدا لما أخبرهم السادة المقدمين و الشيوخ على أن السيد الوزير سيحل بينهم و يجود عليهم بالطريق المعبدة، و انتشر الخبر بسرعة ،انتشار النار في الهشيم، من مدشر الى مدشر، و بدأ الكل يستعد لاستقبال السيد الوزير المحترم.
و اكتملت الفرحة لما نادى “البراح” في السوق اللاسبوعي، و بجانبه المنتخبين المحليين و رؤساء الجماعات و هو يصيح: اسمعوا …. اسمعوا …و عوا… ان السيد وزير التجهيز سيأتي عندكم من الرباط لينجز لكم الطريق، و هذا بفضل المنتخبين و ممثلنا بالرباط … فكونوا في الموعد … هيا صفقوا و زغردوا !!!
التفت بائع السمك لصاحبه و هو يقول: الحمد لله … سنبيع الحوت في الوقت المناسب، بعد تشييد الطريق، و ليس الحوت فقط الذي سنبيع … بل اللحوم و الخضر … و حتى عمالنا بالخارج سيأتون الينا بسياراتهم الفاخرة … و ربما سنشتري منهم سيارة ، اذا كان ‘التعشير’ رخيصا !!
فجأة ظهر ممثل المنطقة بالبرلمان، بجلبابه الابيض و طربوشه الأحمر،و هو منتشيا و يتقبل تهاني المواطنين بالسوق، و هو يؤكد لهم: لقد قلت لكم انني سأدافع عنكم … فها هو الوزير سيأتي اليكم بنفسه، و يبني لكم الطريق ! فكونوا في استقباله رجالا و نساءا … و الخير يأتي … سترونه سيأتي الوزير بنفسه.
التفت السيد النائب المحترم الى أحد الشباب و قال لهم: لا تنسوا البندير و الغيطة و الرقص … و اكثروا من الغناء و الرقص .. افرحوا … افرحوا…
و في اليوم الموعود، و صل السيد الوزير المحترم و بجانبه سعادة العامل و النواب البرلمانيين و رؤساء الجماعات المحلية و ممثلي الغرف المهنية و رؤساء المصالح الاقليمية ليجدوا في استقبالهم جمع غفير من البشر،رجالا و نساءا، و هم يصفقون و يهتفون و يشكرون السيد الوزير و الوفد المرافق له. انطلقت حناجر الغياطة لتعزف الغيطة و النساء يرقصن و الطبول تدق.
بدأ حفل التدشين، امام حائط تذكاري شيد خصيصا لهذا الغرض كنقطة الصفر التي سيبدأ منها انجاز الطريق المعبدة. اخذ السيد الوزير مطرقة و دق فوق النصب التذكاري ليصفق الجميع و يعلن عن بداية هذا المشروع التاريخي. و خاطب الجميع بعد ذلك ليقول لهم: هنيئا لكم بالطريق ! هيا افرحوا!
انصرف الوفد الوزاري الى خيمة ضخمة كبرى نصبت بجانب النصب التذكاري لتناول وجبة غذاء على شرف السيد الوزير و هي عبارة عن أكباش مشوية ‘المشوي’، اما المواطنون و المواطنات فانهم عادوا الى ديارهم و هم فرحين و مستبشرين بهذا المشروع الذي دشنه السيد الوزير المحترم.
عاد معالي الوزير الى الرباط، و ترك وراءه النصب التذكاري الذي دشنه، و بدأ المواطنون ينتظرون وصول آليات البناء و البداية في انجاز المشروع، و لكن شيئا لم يأتي و طال الانتظار.
و كان كلما استفسروا السيد النائب البرلماني عن مصير المشروع يجيبهم: انتظروا حتى يتم التصويت على الميزانية و المصادقة على القانون المالي … الا تعرفون أن المشاريع لا تأتي هكذا بسرعة !!!
مرت الشهور تلو الشهور، ثم عام بعد عام، و لكن المشروع بقي حبرا على ورق و دار لقمان لا تزال على حالها، و بدأ السكان يتساءلون: متى سينجز هذا الطريق؟ هل نسانا السيد الوزير؟
تغيرت الحكومة بعد انتخابات تشريعية حصل فيها البرلماني على مقعد نيابي لولاية جديدة، و تم تغيير وزير التجهيز بوزير آخر، فتوجه اليه السيد النائب لتهنئته و مطالبته بانجاز الطريق الموعود، فأجابه أنه ليس لديه أية ميزانية لهذا الطريق،و أنه ليس ملزما بتنفيذ ما وعد به سلفه أي الوزير السابق و أكثر من هذا فاجأه أن المشروع المذكور ليس من أولويات وزارته.
وجد السيد النائب البرلماني نفسه في ورطة كبيرة و قال للسيد الوزير الجديد: ان سلفكم قد زارنا بالمنطقة و استقبلناه بالغيطة و المزمار، و البندير و الطبل، و ذبحنا الخرفان … هل كل هذا ضاع؟ … ألا تعرفون أنه بنى حجرا أساسيا و دشنه بنفسه بحضور السكان.
لم يستطع النائب البرلماني اقناع الوزير الجديد بانجاز الطريق الموعود،و لم يجد جوابا مقنعا لتساؤلات المواطنين المستفيدين بالمشروع، و اغتاظ غيضا شديدا، و أبلغ الوزير على أنه سيحتج عليه داخل البرلمان و سيوجه اليه سؤالا شفويا في الموضوع. لم يبالي الوزير الجديد بهذا التهديد و قال له: افعل ما شئت … فلن ابني لكم أي طريق !!!
بعد مضي 4 سنوات على تدشين الحجر ألأساسي من طرف معالي الوزير، تحول هذا الحجر ألأساسي الى أطلال يقصده السكان للتبرك به، و التحلق حوله كأنه قبر من مقابر أولياء الله … و أخذ بعض الشباب يتسائلون عن دور هذا الحجر ألأساسي، و من هو الولي الصالح الذي دفن فيه. و هكذا تحول الى مزار عمومي و مكان للتبرك.
توجه السيد البرلماني بسؤال شفوي الى فخامة السيد وزير التجهيز قائلا: لقد استقبلناكم بالطبل و الغيطة … و ذبحنا الخرفان … و غنينا و رقصنا … و لكنم لم توفوا بوعدكم و لم تبنوا لنا الطريق!! انني أطالب الحكومة بأن تعوضنا في ثمن الخرفان المشوية … و أن ترد لنا نغمة الغيطة التي ضاعت.و اضاف بعد أن أخذ نفسه: حضرات النواب المحترمين … ان وزير التجهيز السابق لم يوف بوعده … و وعد الحر دين عليه … و تركني في ورطة مع السكان و لهذا أطالب المحاسبة.. أطالب الحكومة في اطار استمرارية المسؤولية الحكومية ان تنفذ ما وعدت به الحكومة السابقة.
و فجأة، دق رئيس المجلس بمطرقته مطالبا النائب البرلماني باحترام الحكومة و التزام ألأدب و اللياقة،و الا سحب منه الكلمة،و طرده من داخل قبة الجلسة العامة.
التفت البرلماني نحو رئيس المجلس و هو يصيح: انت الذي كنت وزير التجهيز في الحكومة السابقة، انت الذي أكلت ‘المشوي’ و رقصنا لك، و عزفنا الغيطة …. ألا تستحيي !!!