لا تكاد تستفيقُ من فاجعةٍ حتى تُداهِمَك من هي أفْجْعُ منها في مغْرِب الحقوق والحريات، مَغْرِبٌ يُقِرُّ فيه دستوره أن جميع المغاربة متساوون في الحقوق والواجبات، وأن للمغاربة الحق في الحياة والحق في الرعاية الصحية والحق في الضمان الاجتماعي و الحق في السكن اللائق ..، ولا أعرف أين فرّت هذه الحقوق من الواقع البئيس الذي يعيشه أغلب المغاربة .
فمآسي هذا البلد المَكْلُوم تُنْسِيك بعضَها بعْضاً، فمن شهداء قوارب الموت إلى شهداء البرد في جبال الأطلس والمناطق المُهمّشة مُروراً بضحايا حِراك المطالب الاجتماعية بمنطقة الريف وصولا إلى شهداء الرغيف الأسود بجرادة وتالسينت، ولا ندري على من ستدور الدائرة في الأيام المقبلة .
فسياسيونا منشغلون إلى الأذقان ـ كان الله في عونهم!! ـ بتلميع صورة المغرب خارجيا والاستثمار في أفريقيا لتسمين أرصدتهم البنكية بالدرجة الأولى وأرصدة من يَدُورون في فلكهم، وبدل أن ينشغلوا بتلبية كل المطالب المشروعة التي بَحَّتْ بها حناجر المغاربة في ساحات الاحتجاج عبر مختلف المناطق المغربية، تراهم يُصِرُّون على المقاربة الأمنية لتفريق المحتجين في مَشَاهِدَ تُذَكِّرُنا بسنوات الجمر والرصاص التي يصر المجلس الوطني لحقوق الإنسان على اعتبارها صفحةً مَطْوِيّةً من تاريخ المغرب الحديث .
غير أنه وبرغم الإحساس بالحزن والنقص والغضب جَرّاءَ مشاهدِ البُؤْس والحرمان والظلم الذي تعاني منه معظم المناطق المغربية، ورغم الحياة الممزوجة بطعم الموت لمختلف الأُسَر المَكْلُومة، إلا أن ما يُثْلِجُ الصّدْر هو هذه الثقافة السائدة اليوم لدى المواطن المغربي .. ثقافةُ الاحتجاج، ثقافةُ الخروج إلى الشارع للمطالبة بحقوقه المشروعة .
لقد تغلب أخيرا على خوفه الذي سكنه لعقود طويلة، وانتصر على صمته الأبدي .. خَوْفٌ وصَمْتٌ جعل منه مجردَ صوت يعطيه لمن يدفع أكثر في سوق الانتخابات، وعند تشكيل الحكومة والبرلمان يتحالفان ويتفقان على سن القوانين وتشريع المراسيم لإفقار المواطن المسكين وجعله يَلْهَث طول حياته وراء رغيفٍ أسود لا يسمن ولا يغني من جوع .
نعم لقد فهم أخيرا أن الاحتجاج والانتفاض من أجل انتزاع الحقوق هو السبيل لوضع حد للظلم المحيط به من كل جانب وصوب، وأنه كلما اتسعت دائرة الاحتجاج إلا وشكلت ضغطا على الماسكين بزمام الشأن السياسي في هذا البلد لإنجاز إصلاحاتٍ وتقويماتٍ تُعِيدُ للشعب المغربي جُزْءاً من حقوقه المنهوبة، وتَرُدُّ إليه شيئا من اعتباره الآدمي والإنساني .
لقد انتفض الريفُ في حركةٍ احتجاجيةٍ واسعة استطاع من خلالها ترسيخ ثقافة الاحتجاج، ونجح إلى حد بعيد في كسب تعاطف شرائح واسعة من الناس داخل وخارج المغرب، بل وكان سببا في إعفاء وزراءَ ومسؤولين نافذين ثَبَتَتْ مسؤوليتهم فيما آلت إليه الأوضاع في هذه المنطقة، وهاهي مدينة جرادة تنتفض بدورها على خطى حراك الريف منددة بالأوضاع البئيسة التي تعيشها المنطقة الشرقية بأكملها، ومعلنة وقوفها ضد سياسة التهميش والتفقير والتجهيل المُمَارَسَة على المنطقة بِرُمّتِها، فمدينة جرادة خرجت عن بكرة أبيها تنعي شهداء الرغيف الأسود وتطالب بمحاسبة المسؤولين الذين بَدَلَ أن يُنْجِزُوا مشاريع تنموية تَنْتَشِلُ أبناء المدينة من براثن الفقر والحرمان وانسداد الأفق، حققوا لأنفسهم أرصدة بنكية تزيد من ترفهم وغناهم الفاحش .
فتحية عالية لكل المحتجين والمنتفضين ضد الظلم والقهر والحرمان ..
ورحم الله شهداء الخبز والكرامة في كل مكان وفي كل حين ..