خولة اجعيفري
في ضوء التطورات الأخيرة التي حملها قرار مجلس الأمن الصادر في 31 أكتوبر الماضي بشأن قضية الصحراء المغربية، تدخل موريتانيا مرحلة جديدة من اختبار التوازنات الدقيقة في سياستها الخارجية، بعدما أكّد القرار الأممي ولأول مرة بوضوح على “واقعية مبادرة الحكم الذاتي” كحلّ وحيد ذي مصداقية للنزاع.
فبين ضغوط الجزائر التي تسعى لاستمالة نواكشوط اقتصاديا وأمنيا والمكاسب المتزايدة للعلاقة مع المغرب التي اتخذت منحى استراتيجيا من خلال مشاريع الطاقة والربط الحدودي والمبادرة الأطلسية، تجد موريتانيا نفسها أمام لحظة حاسمة قد تدفعها إلى تجاوز حيادها الإيجابي والانخراط رسميا في دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تكتسب اليوم زخما دوليا غير مسبوق و إقرارا أمميا رسميا من مجلس الأمن.
هذا التحول المحتمل لا يتعلق فقط بالموقف من نزاع الصحراء، بل بمستقبل موقع نواكشوط في المعادلة الجيوسياسية الجديدة لشمال وغرب إفريقيا حيث أصبحت الرباط شريكا محوريا في الأمن والتنمية الإقليمية، فيما تبدو الجزائر في موقع دفاعي أمام قرارات أممية ومبادرات مغربية تقوّي منطق الواقعية والتسوية.
وعلى امتداد السنوات الأخيرة، بنت نواكشوط سياستها على توازن دقيق بين جارين كبيرين هما المغرب والجزائر، لكنها اكتشفت تدريجيا أن مصالحها الاقتصادية واللوجستية باتت ترتكز على الممر المغربي نحو الأطلسي أكثر من أي وقت مضى.
في المقابل، تحاول الجزائر منذ 2023 تعزيز حضورها جنوبا عبر مشروع طريق تندوف – ازويرات ومنطقة تجارة حرة حدودية، تُراد لهما أن يقدما بديلا عن الممرات المغربية لكن هذا المشروع لم يبلغ بعدُ القدرة نفسها على التأثير التجاري أو الرمزي التي يمثلها معبر الكركرات أو المشروع الجديد الرامي إلى فتح منفذ ثانٍ بين السمارة وبير أم كرين.
والطريق المغربي الجديد، الذي تجاوزت نسبة أشغاله 95 في المائة، سيشكل عند تشغيله شريانا بريا إضافيا يربط أسواق شمال إفريقيا بعمق الساحل، وهو ما تعتبره موريتانيا ورقة استراتيجية لتكثيف صادراتها ووصولها إلى الموانئ الأطلسية.
هذا الانخراط الاقتصادي المتنامي مع المغرب لم يمر من دون انعكاسات سياسية، فـ”المبادرة الأطلسية” التي يقودها المغرب بالتنسيق مع عدد من دول الساحل تمنح نواكشوط موقعا مفصليا كممرّ لوجستي ومعبر للطاقة، الأمر الذي جعلها ترى في الشراكة مع الرباط فرصة تنمية، لا مجرد توازن دبلوماسي.
الرئيسية
المغرب الكبير
التحوّل الصامت في نواكشوط.. كيف يمهّد قرار مجلس الأمن حول الصحراء لالتحاق موريتانيا بخيار الحكم الذاتي دون “إعلان رسمي”؟
التحوّل الصامت في نواكشوط.. كيف يمهّد قرار مجلس الأمن حول الصحراء لالتحاق موريتانيا بخيار الحكم الذاتي دون “إعلان رسمي”؟
الصحيفة – خولة اجعيفري
الأربعاء 5 نونبر 2025 – 19:07
في ضوء التطورات الأخيرة التي حملها قرار مجلس الأمن الصادر في 31 أكتوبر الماضي بشأن قضية الصحراء المغربية، تدخل موريتانيا مرحلة جديدة من اختبار التوازنات الدقيقة في سياستها الخارجية، بعدما أكّد القرار الأممي ولأول مرة بوضوح على “واقعية مبادرة الحكم الذاتي” كحلّ وحيد ذي مصداقية للنزاع.
فبين ضغوط الجزائر التي تسعى لاستمالة نواكشوط اقتصاديا وأمنيا والمكاسب المتزايدة للعلاقة مع المغرب التي اتخذت منحى استراتيجيا من خلال مشاريع الطاقة والربط الحدودي والمبادرة الأطلسية، تجد موريتانيا نفسها أمام لحظة حاسمة قد تدفعها إلى تجاوز حيادها الإيجابي والانخراط رسميا في دعم مبادرة الحكم الذاتي التي تكتسب اليوم زخما دوليا غير مسبوق و إقرارا أمميا رسميا من مجلس الأمن.
هذا التحول المحتمل لا يتعلق فقط بالموقف من نزاع الصحراء، بل بمستقبل موقع نواكشوط في المعادلة الجيوسياسية الجديدة لشمال وغرب إفريقيا حيث أصبحت الرباط شريكا محوريا في الأمن والتنمية الإقليمية، فيما تبدو الجزائر في موقع دفاعي أمام قرارات أممية ومبادرات مغربية تقوّي منطق الواقعية والتسوية.
وعلى امتداد السنوات الأخيرة، بنت نواكشوط سياستها على توازن دقيق بين جارين كبيرين هما المغرب والجزائر، لكنها اكتشفت تدريجيا أن مصالحها الاقتصادية واللوجستية باتت ترتكز على الممر المغربي نحو الأطلسي أكثر من أي وقت مضى.
في المقابل، تحاول الجزائر منذ 2023 تعزيز حضورها جنوبا عبر مشروع طريق تندوف – ازويرات ومنطقة تجارة حرة حدودية، تُراد لهما أن يقدما بديلا عن الممرات المغربية لكن هذا المشروع لم يبلغ بعدُ القدرة نفسها على التأثير التجاري أو الرمزي التي يمثلها معبر الكركرات أو المشروع الجديد الرامي إلى فتح منفذ ثانٍ بين السمارة وبير أم كرين.
والطريق المغربي الجديد، الذي تجاوزت نسبة أشغاله 95 في المائة، سيشكل عند تشغيله شريانا بريا إضافيا يربط أسواق شمال إفريقيا بعمق الساحل، وهو ما تعتبره موريتانيا ورقة استراتيجية لتكثيف صادراتها ووصولها إلى الموانئ الأطلسية.
هذا الانخراط الاقتصادي المتنامي مع المغرب لم يمر من دون انعكاسات سياسية، فـ”المبادرة الأطلسية” التي يقودها المغرب بالتنسيق مع عدد من دول الساحل تمنح نواكشوط موقعا مفصليا كممرّ لوجستي ومعبر للطاقة، الأمر الذي جعلها ترى في الشراكة مع الرباط فرصة تنمية، لا مجرد توازن دبلوماسي.
بالمقابل، تستمر الجزائر في الضغط عبر قنواتها الاقتصادية والأمنية للحفاظ على صيغة الحياد الموريتاني بل أطلقت منذ أشهر مرحلة جديدة من التنسيق الأمني مع نواكشوط في المناطق الحدودية لتأمين فضاء الساحل غير أن مصادر مقربة من الأوساط الحكومية الموريتانية تؤكد أن “الميل الاقتصادي أصبح مغربيا بامتياز، فيما تبقى الحساسية السياسية جزائرية الطابع”.
في كواليس القرار الأممي الأخير، أبلغ دبلوماسيون أفارقة الأمم المتحدة أن التحول في لغة المجلس سيُسهل على دول الجوار وفي مقدمتها موريتانيا، التحرك ضمن هامش أوسع فبدلا من إعلان دعم صريح للحكم الذاتي، يمكن تبنّي تعبيرات مثل “نعتبر المبادرة أرضية جدّية وواقعية للتفاوض”، وهي الصيغة التي لجأت إليها بالفعل دول أوروبية وعربية بعد 2020، وتمثل اليوم المنطقة الرمادية الآمنة التي تسمح بالاقتراب من الموقف المغربي دون مغادرة “الحياد”.
وبحسب تقديرات باحثين في “بوليسي سنتر” فإن نواكشوط تميل إلى هذا السيناريو التدريجي، لأنه يعزّز شراكتها الاقتصادية مع المغرب ويُبقي على قنواتها الأمنية مع الجزائر خصوصا في ظل استمرار التهديدات الإرهابية في الساحل واحتياجها إلى توازن إقليمي مستقر.
لكن مؤشرات التحول تظهر شيئا فشيئا، فخلال الأسابيع التي تلت تصويت مجلس الأمن، شهدت العلاقات المغربية الموريتانية نشاطا دبلوماسيا مكثفا، تُوج بإعلان مشاريع ربط جديدة وفتح مكاتب لوجستية مشتركة في الداخلة ونواكشوط كما كشفت مصادر تجارية عن ارتفاع حجم المبادلات بنسبة تفوق 35 في المائة خلال العام الجاري، مقابل ركود شبه تام في المبادلات مع الجزائر.
وفي الوقت نفسه، بدأت النخبة الإعلامية والسياسية الموريتانية تتحدث علنا عن جدوى المبادرة المغربية بوصفها خيارا واقعيا يضمن استقرار المنطقة ويحمي موريتانيا من ارتدادات النزاع وهذا النقاش الداخلي، وإن ظل محدودا، يعكس بداية تليين في الموقف التقليدي تمهيدا لتكييف محتمل في اللغة الرسمية.
وما يجعل هذا السيناريو أكثر واقعية هو أن الكلفة السياسية للحياد بدأت ترتفع في ظل تحولات الإقليم، فالمغرب الذي يراكم مكاسب سياسية واقتصادية متسارعة في غرب إفريقيا وأوروبا، أصبح لاعبا إقليميا يصعب تجاهله، وموريتانيا تدرك أن اللحاق بهذا القطار الآن أقل كلفة بكثير من الانتظار حتى يتحول الإجماع الدولي حول الحكم الذاتي إلى واقع نهائي.
ولذلك تميل مؤشرات التحليل إلى أن نواكشوط ستُبقي في المدى القريب على لغة الحياد الإيجابي، لكنها ستتبنى في العلن مفردات أكثر تقاربا مع مقاربة الرباط، في خطوة أولى نحو اصطفاف محسوب، تدفعه المصالح لا المواقف، ويمهّده القرار الأممي الذي غيّر قواعد اللعبة.
وفي هذا الإطار، يرى محمد الأمين ولد السالك الباحث والمحلل في الشؤون المغاربية والساحل الإفريقي، أنه من الخطأ قراءة موقف نواكشوط من نزاع الصحراء باعتباره جمودا معتبرا إياه “حياد نشِط مُكلف هندسيا وسياسيا لكنه حتى الآن أقل كلفة من الاصطفاف الصريح”.
الخبير الموريتاني، وفي تصريح خص به “الصحيفة” قال إن قرار مجلس الأمن في 31 أكتوبر “بالفعل غيّر البيئة المرجعية من حولنا، ولم يعد الحديث عن الحكم الذاتي رأيا مغربيا فقط بل سقفا أمميا مائلا باتجاه مقاربة تعتبرها عواصم مؤثرة “واقعية وجدّية”، وهذا التحوّل لا يُجبر موريتانيا على القفز خارج حيادها لكنه يخفض ثمن التدرّج نحو لغة أكثر قربا من الرباط، متى توفّرت عوائد اقتصادية – أمنية ملموسة وشبكة تطمينات إقليمية.” وفق تعبيره.
واعتبر ولد السالك، أن موريتانيا “لديها معادلة مزدوجة الممرّات، من جهة، ممرٌّ مغربيٌّ أطلسيٌّ تتسارع عناصره ممثلة في منفذ بري ثانٍ شرق الصحراء، وربط لوجستي ومينائي وطاقة خضراء، وأسواق تُفتح أمام سلعنا وخدماتنا”، ومن جهة أخرى، يضيف المتحدث “ممرٌّ جزائري بريّ عبر طريق تندوف – ازويرات ومنطقة تجارة حرة واعدة”.
وأورد ولد السالك “بقدر ما تتقدّم المشاريع على الأرض، تتبدّل هندسة الجدوى أمام صانع القرار الموريتاني فإذا أثبت الممر المغربي أنه يمنح عوائد فورية واختصارا لزمن وكلفة العبور سيسهل تكييف اللغة الرسمية نحو الاعتداد بالحكم الذاتي كحلّ عملي تحت رعاية الأمم المتحدة دون إعلان قطيعة مع الجزائر أو توديع الحياد دفعة واحدة.”
ونبه المتحدث، إلى أن البُعد الأمني لا يقل وزنا فموريتانيا على تماس مع بيئة الساحل الهشّة وحاجتها إلى تنسيق حدودي واستخباراتي مع الجارين تجعل أي تحوّل لفظي غير محسوب مغامرة مكلفة، مضيفا “لهذا أميل إلى أن السيناريو الأرجح في الاثني عشر شهرا المقبلة هو حياد إيجابي مع اصطفاف عملي أعمق لصالح مشاريع الربط المغربية، يتلوه، إذا تراكمت المكاسب وهدأت الحساسية الإقليمية، تأييد مُقنّن للحكم الذاتي بصياغة أرضية جدّية وواقعية للتفاوض وهي صيغة تترك للجميع مخرجا مشرّفا”.
وجوبا على سؤال “الصحيفة” حول ماهية الخطوط الحمراء الموريتانية، يقول الباحث “أولا، أن لا يُقرأ أي تعديل في اللغة باعتباره انحيازا أمنيا ضد طرف بعينه، ثانيا، أن تُقرن أي صياغة جديدة بمنافع موزونة بما فيها تسهيلات عبور، تكامل لوجستي، فرص عمل، وحماية سلاسل التوريد، وثالثا، أن يحظى التحول بتوافق داخلي يضم المؤسسة التنفيذية وبؤر التأثير الاجتماعي – الاقتصادي في الشمال والشرق والوسط من دون ذلك، سيكون أي موقف صريح قابلا للارتداد سياسيا”.
وتاريخيا، اعتمدت نواكشوط دبلوماسية الخطوة الصغيرة، وفق تقديرات المحلل السياسي الذي أشار إلى أن بلاده بهذا “تراكم مكاسب، تقليل خصوم، وترك الأبواب نصف مفتوحة” قبل أن يستدرك “قرار 31 أكتوبر أعطانا هواء استراتيجيا إضافيا لنمدّ الخطوة دون أن نكسر التوازن والمعنى العملي أننا نقترب أكثر من الرباط اقتصادا وبُنى تحتية، ونضبط لهجتنا بحيث تتناغم مع الشرعية الدولية المحدثة، ونُبقي على صمّامات أمان مع الجزائر وبهذا فقط يمكن أن نصل تدريجيا إلى لحظة يصبح فيها التصريح بدعم الحكم الذاتي نتيجة طبيعية لا قفزة في الفراغ.”








