محمد لزرك يكتب:
من المعلوم بأن أية لغة كيفما كانت، إلا ولها معجمها الخاص بها، ولها قواعدها ومميزاتها وحمولتها؛ فضلا عن كونها تتطور مع مرور الزمن وخاصة على مستوى إحياء بعض من مصطلحاتها التي كادت تموت في فترة من الفترات، وإقحام مصطلحات ومفاهيم أخرى جديدة في معاجمها؛ نتيجة لاختراعات جديدة أو تسميات فرضت نفسها نتيجة تطور بعض الحقول المعرفية، أوحتى توظيف مصطلحات قائمة؛ لكن بمفهوم مجازي جديد؛ واللغة العربية هي واحدة من هاته اللغات.
غير أن ما يهمنا في هذا المقال هو تسليط الضوء على بعض المصطلحات التي تنشأ في ظروف تاريخية واجتماعية خاصة، يكون فيها الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي حامي الوطيس، فيحتدم هذا الصراع ويتطور فينعكس كنتيجة حتمية على مستوى الوعاء اللغوي والقاموس الاجتماعي، فهيا بنا إلى المصطلحات المذكورة في العنوان أعلاه ودراستها والتعليق عليها:
المصطلح الأول هو ” البرڭاڭ “: عرف هذا المصطلح مع الاستعمار الفرنسي، حيث كانت هناك، ما اصطلح عليها مكاتب صحفية لتجميع الأخبار والمعلومات؛ وكان هناك مقدمون ومختصون مكلفون بذلك؛ وكل من يسمع خبرا جديدا أويتوصل بمعلومة، إلا ويقدمها للمكتب المعلوم، الذي كان يسمى بمكتب الاستعلامات العامة: BRG “برڭ” (Bureau des Renseignements Génèrals)
وهناك رواية أخرى تتحدث عن وجود مقدمين يسلمون للمستعمر وثيقة يومية في آخر النهار حول الساكنة تسمى وثيقة الاستعلامات اليومية. وتسمى بالفرنسية اختصارا : (BRQ) Bulletin des) renseignements quotidiens
ويقال عن العملية كلها: “أرسل بركاك”، قاصدين بذلك تقريرا. ومنذ ذلك الوقت، وحتى بعد الاستقلال وإلى اليوم، يسمي المغاربة، كل من ينقل الأخبار والتقاريرإلى الجهات المعنية
“برڭاڭا”
المصطلح الثاني هو”الشكام”: هذا المصطلح قريب جدا في مفهومه العامي من مصطلح “البرڭاڭ”، غير أن الأصل في الكلمة أنها كلمة عربية فصحى، ولها معنى إيجابي، حيث تدل على العطاء والجزاء، فكلمة شكم بضم الشين تعني الجزاء والعطاء، وشكام تعني كثرة العطاء. أما في اللغة المغربية العامية فكلمة “شكام” تقال في حق المخبر أو الجاسوس الذي يبلغ عن الآخرين للمسؤولين مقابل مكافأة أو منفعة.
المصطلح الثالث هو “الخبارجي”: هو امتداد للبرڭاڭ والشكام، ويختلف عنهم في كون الخبارجي قد ينقل الأخبار في كثير من الأحيان لكل من هب ودب دون تمييز أو تدقيق ودون هدف مدروس ودون وجود مقابل بالضرورة. لكن قد يقدم له المقابل إذا كان قادرا على الإتيان بالخبر الحساس والمفيد.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك مصطلح شعبي آخر قريب في المفهوم من البرڭاڭ والشكام والخبارجي، وهو مصطلح البياع؛ لكن هذا الأخير أصبح ضعيف الاستعمال، وليس دقيقا جدا في التوصيف لأن صفة البياع تطلق على الشخص كثير البيع، أي الذي بيع كثيرا من السلع. ويستعمل المصطلح في الدرجة المغربية للإحالة على “الدلال” “والسمسار”. إذن المصطلح فيه شيء من “حتى” كما يقول اللغويون في ضرب الأمثال.
المصلح الرابع والخامس هما “اليميني واليساري”: ارتبط مصلحي اليمين واليسار بالثورة الفرنسية لسنة 1789، حيث جلس مؤيدو الملكية على يمين رئيس الجمعية التأسيسية الوطنية الفرنسية لصياغة الدستور، بينما جلس مؤيدو التغيير والثورة على يساره، فظهر المفهوم بالصدفة، قبل أن يتأصل ويصبح راسخا فيما بعد. وتكون أهمية المصطلح في إحالته السريعة على الإيديولوجيا والفكر المحمول، ويسهل على المتلقي التعاطي مع أفكار كل توجه. ويمكن أن ينضاف لكل مصطلح منهما توصيف آخر كالراديكالي، والمتطرف والمحافظ؛ فنقول: اليسار الراديكالي، ونقول اليمين المتطرف أو اليمين المحافظ.
المصلح السادس هو “خونة الوطن”: أصبح هذا المصطلح واسع الاستعمال في المغرب وخاصة في الألفية الثالثة، حيث لم يعد يوجه فقط إلى جهات تشتغل مع المستعمر أو المحتل أو مع جهات أجنبية عدوة، كما كان عليه الأمر في عهد الاستعمار؛ وقتها كان هناك رجال المقاومة والتحرير في مقابل خدام الاستعمار وخونة الوطن. أما اليوم فهناك نزوح إلى استعمال هذا المصطلح على نطاق واسع جدا ودون تحفظ. ونعتقد أن استعمال مثل هاته المصطلحات يجب أن يظل من اختصاص مؤسسات الدولة لأنها تحمل تهما ثقيلة جدا في بعض الحالات، وليس من الحكمة أن تستعمل من طرف مجرد نشطاء في مواقع التواصل الاجتماعي.
المصلح السابع هو “الانفصاليون”: استعمل هذا المصطلح بشكل غير دقيق في حراك الحسيمة من طرف جهات رسمية كالحكومة وأخرى غير رسمية؛ وخلف ردود فعل عديدة، مما جعل البعض يحذر من مغبة استعمال هذه المصطلحات في حق مكونات الشعب المغربي. ولازال بعض نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي يستعملونها كوسيلة لتصفية الحسابات دون حسيب ولا رقيب.
المصطلح الثامن هو “العياشة”: لم يكن هذا المصطلح متداولا ومستعملا بشكل واضح قبل سنة 2016، وإن كان هناك من يشير إلى استعماله المحدود من طرف اليساريين خلال فترة السبعينيات من القرن الماضي. لكن هذا المصطلح أصبح متداولا بشكل واسع جدا خلال حراك الحسيمة في سنتي 2016 و2017. وقد جاء هذا المصطلح ردا على بعض من اتهم قائدي الحراك آنذاك بالانفصاليين. ولم يوجه هذا المصطلح لمناصري النظام الملكي بالمغرب، بل استهدف فئة من الانتهازيين الذين يستفيدون من الريع الاقتصادي والسياسي ويسرقون ثروات البلد من المال العام، ويتعاطون للرذيلة رافعين شعار “عاش الملك”، فقط قصد الإفلات من العقاب والمتابعة. طبعا هناك استثناءات في هذا الصدد، إذ هناك من يستعمله حتى لا تلصق به أي تهمة. ولا زال المصطلح يستعمل من حين لآخر كوسيلة للتراشق والتهكم من جهة؛ وكردة فعل متحدية، من جهة أخرى، تحت شعار: “عیاشي وأفتخر” وكل ما يهمنا في هذا البحث أن هناك أحداث وسياقات معينة تكون كفيلة بإفراز بعض المفاهيم الجديدة التي سرعان ما تنضاف إلى القاموس اللغوي وتفرض نفسها في النقاش الإعلامي والتواصلي.
المصلح التاسع هو “الأخنوشيون”: إنتعش هذا المصطلح بالخصوص مع تعيين السيد عزيز أخنوش رئيسا للحكومة في سنة 2021؛ وكان الأخير حتى قبل تعيينه رئيسا للحكومة يعتمد على المال في بلوغ أهدافه، مما جعل فئة واسعة تتجند لمدحه والنفخ فيه بشكل غير مسبوق؛ طبعا مقابل مكافئات علی الأرجح. وربما منهم من كان مقتنعا بشخص أخنوش في البداية ثم تلاشت قناعاته فيما بعد. هاته الفئة كانت تسمى “بالأخنوشيين”. هذا المصطلح بدأ يتلاشى ويموت لفائدة مفاهيم أخرى جديدة.
المصلح العاشرهو”الزلايجية”: حل هذا المصطلح محل مصطلح “الأخنوشيين” على ما يبدو؛ وقد استعمل هذا المصطلح في الآونة الأخيرة بكثافة، في وقت اشتد الخناق على رئيس الحكومة عزيز أخنوش من جميع الاتجاهات؛ ومنها الأحزاب السياسية التي كانت لها معه صراعات مريرة كحزب العدالة والتنمية والتقدم والاشتراكية واليسار الاشتراكي الموحد، وبدرجة أقل الحركة الشعبية؛ ومنها أيضا بعض المنظمات الحقوقية، إضافة إلى بعض المنابر الصحفية المستقلة وكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، دون أن ننسى انسلاخ مكونات التحالف الحكومي الأخرى، والتي بدأت تحتفظ بمسافة الأمان عن أخنوش مع قرب سنة الانتخابات 2026. وبشكل نهائي أنهت حركة جيل Z الحياة السياسية لأخنوش خلال الأسابيع الماضية. أمام هذا الحصار الذي تعرض له أخنوش، وجد الأخير، نفسه مضطرا لتوظيف واسع النطاق لمنابر صحفية ولكثير من مواقع التواصل الاجتماعي، والتي بدأت تشتغل في الأشهر الأخيرة بشكل مكثف، تحسبا لانتخابات 2026؛ حيث كانت المحتويات المقدمة تركز على تلميع سورة رئيس الحكومة وسورة حزب الحمامة التجمعي، بشكل يفتقد للاحترافية ودون استناد على المنجزات والمعطيات الرقمية. ولم تكن العملية برمتها تعدو أن تكون تطبيلا وتزميرا وتهليلا وتصفيقا. وفي هذا السياق بالضبط جاء الرد على هاته الفئة التي اكتسبت باستحقاق صفة الزلايجية، التي باتت تملأ مواقع التواصل الاجتماعي. ومن حين لآخر يستعاض عنها “بالبناترية” و”الڭباصة”. فهناك فئة من المغاربة كما تعلمون، لا يقتصرون على الافتخار بالزليج المغربي البلدي كإرث من التراث، والاشتغال على إبداعات وإنتاجات جديدة، بل يكتفون بقولة واحدة هي الزليج البلدي والقفطان المغربي والرخام الأصيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
المصلح الحادي عشرهوالقفاطنية”: وهو مصطلح بدأ يتداول في القاموس الذي تفرزه الأحداث والتفاعلات، وهو يستعمل في مواجهة من يمجدون أخنوش، كما يمجد(فعل مبني للمجهول) القفطان المغربي، دون التفكير في إبداعات جديدة على شاكلة القفطان. ويوظف المصطلح كأداة للتهكم، شأنه في ذلك شأن مصطلحات الزلايجية والبناترية والڭباصة؛ ولا غرابة أن ينضاف إليها مصطلح الرخايمية التهكمي، وليس مصطلح حرفة الرخام (الرخايمية) الذي كان ولا يزال موجودا منذ قرون خلت؛ لكن يظل مرتبطا بمهنة الرخام فقط. إذن هاته الاستعمالات تحيل إلى الإبداع اللغوي في مواجهة بعض الفئات المتهورة، وتحيل كذلك إلى فن السخرية وإلى استعمال المفاهيم اللغوية والحرفية لكسب الصراعات المحمومة داخل المجتمع. فعلى الجميع أن يكون حذرا في التعاطي مع قضايا المجتمع؛ فهاته الأخيرة قد تجر المجتمع إلى استباحة كل شيء.
المصلح الثاني عشرهو”الخلية الانقلابية”: أطلق هذا المصطلح خلال سنة 2025 في مواجهة بعض الأشخاص المتواجدين سواء داخل المغرب أو خارجه والذين يدعون اختراق بعض مؤسسات الدولة وبعض المنظومات الإعلامية. وقد بدأوا يسربون الأسرار ويهاجمون شخصيات كبرى داخل الدولة ويشهرون بهم علنا. وقد استعمل هذا المصطلح بالخصوص من طرف أدرع إعلامية محسوبة على مؤسسات رسمية، للتنبيه إلى خطورة الأفعال التي يقوم بها هؤلاء وللتحذير من مغبة تسريب الأسرار إليهم والتعاون والتعامل معهم.
المصلح الثالث عشر هو”جيل زاد 212Z” :ظهرا هذا المصطلح واكتسب شهرته في المنابر الصحفية ومواقع التواصل الاجتماعي منذ حوالي شهر فقط؛ وكان ذلك في نهاية شهر شتنبر وإلى حدود اللحظة. وقد تزامن ظهور المصطلح مع بداية الاحتجاجات في كثير من المدن المغربية لمدة زادت عن الأسبوعين، من طرف ما سمي بحركة جيل212Z. إذن مصطلح جيل زاد “Z” أصبح محفورا في أذهان القراء؛ وقد كتبت(بكسر الياء) حوله مقالات كثيرة، وأصبح ضمن محتويات القواميس الشعبية والسياسية والصحفية والتواصلية والاحتجاجية. وأصبح يوظف كمفهوم للصراع والتدافع والمطالبة بكثير من المطالب. إذن هنا يظهر نوع من الإبداع في صياغة المصطلحات وكسب رهان الصراعات. فسوء اختيار المصطلح قد يحرمك من كسب الصراع؛ وهنا تبقى لكل لغة مكانتها في توظيف نقط قوتها، الموجودة منها والمستحدثة لكسب الرهانات والتحديات.
المصطلح الرابع عشرهو شامل لكل ” المصطلحات النابية”: ونتحدث هنا عن كثيرمن المصطلحات الخادشة للحياء والتي لا يمكن لإنسان سوي العقل والخلق أن يتلفظ بها، فكيف بمن يسب بها الناس ويتهمهم في كرامتهم وشرفهم؛ كل هذا باسم الصحافة وباسم الحرية وباسم التصدي للفساد في بعض الأحيان. والأدهى والأمر ان مثل هاته المصطلحات النابية يتم إشهارها في بعض الأحيان في وجه أناس معروفين بنظافة سمعتهم وسيرتهم. وأنا أنأى بنفسي عن استعمال هاته المصطلحات ولو من أجل التوضيح، لأن الأمور واضحة، وتوضيح الواضحات من المفضحات كما تقول العرب؛ وعلى كل ذي عقل وخلق أن يرقى في مستواه باستعمال الكلمات القوية التي تزخربها معاجم جميع اللغات؛ وعلى كل من تسول له نفسه الاستقواء بالكلام النابي أن يتوب إلى ربه ويقدم نقدا ذاتيا لنفسه ويعرف بأنه إنسان منعدم وغير موجود في هذا الكون أصلا؛ فلو كان موجودا وذو قيمة لما استقوا بكل ما هو نابي وقاسي وخشن ومنافي للخلق. واعلم أيها المستقوي بالنذالة أنك مفتقد للخلق والشهامة والنخوة والعزة والكرامة ؛ واعلم كذلك أن فاقد الشيء لا يعطيه.
وفي الأخير الفت انتباه القراء إلى أن التفاصيل الداخلية الواردة في تحليل كل مصطلح على حذة، ليست هي المهمة في موضوعنا هذا، وأن الحديث في موضوع القاموس الاجتماعي والسياسي المستحدث في مرحلة تاريخية معينة، أو بمناسبة حدث اجتماعي معين، والذي يفرض نفسه(أي المصطلح) في ساحة التداول الفكري والسياسي، هي محاولة لتسليط الضوء على الموضوع وتثمين الجانب الإبداعي فيه ودعمه؛ وتصحيح بعض الجوانب السلبية التي قد تطاله، والتحذير من بعض المطبات التي قد يقع فيها البعض، مهما كان مستقويا بمن يؤيده، ومهما كان له من أنصار؛ وبشكل حاسم التصدي لمن يطلقون التهم على عواهلها عن طريق المصطلحات المستعملة وخاصة الكلمات النابية والمنحطة.
ومن الطبيعي أننا لا نستطيع تناول جميع المصطلحات، دفعة واحدة، لكن العبرة بفهم الغاية والمقصود من كل ذلك، واستيعاب القواعد والمبادئ التي يجب أن تسير على أساسها الأمور. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.








