حينما تلتقي الأعين، يتجسد الإبداع على العشب الأخضر، تنفجر المدرجات بالصخب، ويتحول الصمت الداخلي للاعب إلى سيمفونية من الإصرار، فتغدو الكرة وعدا بالتحقق.
في تلك اللحظة التي غادرت فيها الكرة قدمي ياسر الزبيري نحو الشباك الأرجنتينية، لم يكن يحرز هدفا عاديا، بل كان يكتب قصة عشق مزدوجة عشق الكرة.. وعشق القلب.
ولد الزبيري في مراكش في الـ23 من فبراير عام 2005، في بيت بسيط، لكنه مفعم بالشغف، منذ طفولته كان مولعا بالساحرة المستديرة، يركض خلفها في الأزقة قبل أن تلتقطه أعين أكاديمية محمد السادس لكرة القدم، تلك المدرسة التي أنجبت جيل الحلم المغربي، هناك، لم يتعلّم فقط تقنيات اللعب، بل درس الصبر، والانضباط، وكيف يصنع المجد من التفاصيل الصغيرة.
في الأكاديمية، كانوا يقولون عنه إنه يملك أنفا للمرمى، لا يضيع موقع الشباك حتى لو أغمض عينيه، كانت الكرات تطيعه، والفرص تتهادى أمامه كأنها تعرفه منذ زمن، لكنه كان يدرك أن الطريق إلى القمة لا يفرش ببساط من العشب وحده، بل بالمثابرة والصبر الطويل.
انتقل الزبيري إلى اتحاد التواركة سنة 2024، حيث لفت الأنظار في أول موسم له، مسجلا 3 أهداف في 11 مباراة، قبل أن يخطفه نادي فاماليكاو البرتغالي مقابل 600 ألف يورو.
لم تكن الصفقة نحو الدوري البرتغالي مجرد انتقال لاعب شاب إلى أوروبا، بل كانت بداية حلم جديد لطفل مغربي قرر أن يواجه العالم بلغة يتقنها عن ظهر قلب، لغة الأهداف.
في البرتغال، لم تكن البداية سهلة، إذ شارك في دقائق قليلة، لم يسجل، لكنه لم يفقد بريق عينيه، ظل يتدرب في صمت، يبتسم في الهزائم الصغيرة، ويؤمن بأن المجد يحتاج وقتا لينضج، إلا أن إصابة حرمته من المشاركة بكأس أمم إفريقيا لأقل من 20 سنة بعدما لم مباراة الجولة الافتتاحية فقط مسجلا هدفين ضد كينيا، لكنه عاد بقوة ليحمل قميص المنتخب الوطني للشباب في مونديال الشيلي، وهناك انفجر البركان.
من أول مباراة، كان واضحا أن الزبيري مختلف عن البقية، تحركاته ذكية، لمساته حاسمة، وتسديداته كأنها رسائل عشق تؤكد حبه للشباك.

لكنه كان يعيش مفارقة غريبة، عشق التهديف كان يطارده، ومع ذلك، لم تنسب إليه بعض الأهداف التي صنعها بقدميه، إذ سجلت كـ “أهداف عكسية” أمام كل من كوريا الجنوبية وأمريكا وأخيرة تسديدته من ضربة الجزاء ضد فرنسا التي حسبت للحارس، ثلاثة أهداف ضاعت من رصيده لكنها لم تسرق بريقه إذ كان القدر يدخر له شيئا أعظم: ليلة النهائي.
في ملعب سانتياغو دي الشيلي، وأمام 43 ألف متفرج، دخل الزبيري المباراة وهو يعلم أن التاريخ سيخط اسمه بحروف من ذهب، في الدقيقة الثانية عشرة، وبعد استخدام ذكي لبطاقة الحكم المساعد، أعلن الحكم عن ضربة خطأ على بعد ملمترات من منطقة الجزاء، وضع نجم الأشبال الكرة أرضا، عين عليها وعين على الشباك، تراجع بضع خطوات وسددها بثقة العاشق الذي لا يخطئ طريقه إلى القلب، الهدف الأول. المدرجات المغربية تشتعل، لكن في لحظة سكون وسط الصخب، الأعين تتقاطع من بعيد، عينه بعينها تلك التي سافرت من الرباط إلى الشيلي فقط لتراه.
في الدقيقة التاسعة والعشرين، تكرر المشهد. نفس التركيز، نفس الشغف، نفس الابتسامة، الكرة تعانق الشباك للمرة الثانية، وهذه المرة يركض نحو المدرج، يرفع يده، يبتسم، ويشير نحوها، لم يكن احتفالا عاديا، بل وعدا تحقق، ورسالة حب نحوها بالمدرجات تقرأ بلغة الهدف.
هي خطيبته، التي كانت مصدر إلهامه وسره الدفين، دعمت حلمه وساندته منذ بداياته، وآمنت به قبل أن ينقش اسمه في ذاكرة المغاربة، كانت صوته الداخلي في لحظات الصمت، ودفئه في برد الغربة، وبينما كان العالم يتحدث عن الثنائية التاريخية، كان هو يهمس في نفسه بشكر لا يسمعه إلا قلبها.

وقبل حضورها معه في النهائي، حرص نجم المونديال شبل الأطلس على استذكار عائلته وخطيبته في كل هدف يسجله، وفي كل عقبة يتجاوزها، وكل دور ينجح في التأهل منه.
لكن الزبيري لم يكتف بالحب وحده، كان في داخله شيء أكبر: الوطن. بعد المباراة، قال كلمته التي هزت الإعلام المغربي والأنصار من كل حدب وصوب: “مكانخافو من حتى فرقة، كانوا كيهضرو بزاف، وفاش جاو للتيران كليناهم”، عبارة نطقت بالبساطة والعفوية، لكنها اختزلت روح هذا الجيل الشاب، جيل لا يخاف، لا يتراجع، ولا يعرف سوى لغة العمل وتحقيق النتائج.
بفضل تلك الثنائية، أصبح ياسر الزبيري أول لاعب مغربي يسجل هدفين في نهائي كأس العالم وهداف المغرب بعد ياجور في مونديال 2005، وأول من يرفع اللقب رفقة “أشبال الأطلس”، ومعها بات المغرب ثاني منتخب إفريقي بعد غانا يفوز بالمونديال، والأول عربي في التاريخ.
المحللون الأوروبيون وصفوه بأنه المهاجم الذي يبتسم قبل أن يسجل، وقال عنه أحد المعلقين البرتغاليين: إنه لا يهاجم المرمى بل يعانقه، في عينيه مزيج من البراءة والجرأة، وفي قدميه سحر مغربي يذكر بيوسف العربي والنصيري وحكيم زياش، لكن بطابع خاص يخصه وحده.

اليوم، الجميع يتحدث عن مستقبله، عن العروض القادمة من البرتغال وفرنسا وإنجلترا وعن ارتفاع قيمته السوقية، عن مكانه في المنتخب الأول، لكن ياسر الزبيري، كما يصفه المقربون، لا يفكر كثيرا في المستقبل، هو فقط يعيش كل مباراة كأنها الأخيرة، يعطي كل ما في جعبته، وكل هدف كأنه الأول، وكل نظرة من شريكة حياته كأنها وعد جديد.








