سعيد قدوري
فُجع أتباع الطريقة القادرية البودشيشية، وأوساط التصوف المغربي، هذا اليوم، بنبأ وفاة الشيخ جمال الدين القادري بودشيش، شيخ الطريقة القادرية البودشيشية، عن عمر ناهز 83 عاما، بعد مسيرة طويلة في خدمة التصوف والعلم الشرعي، قضاها في الظل، خلف والده الشيخ حمزة، ثم شيخا مرشدا للطريقة بعد وفاته سنة 2017.
ورغم طابعه المتواري عن الإعلام، وشخصيته الهادئة الزاهدة، شكل الشيخ جمال الدين مرجعية روحية لمئات الآلاف من المريدين داخل المغرب وخارجه، وكان حلقة وصل بين جيلين من الصوفية: جيل التأسيس بقيادة والده، وجيل التجديد والانفتاح على العالم، الذي بدأت معالمه تتبلور في عهد نجله منير القادري بودشيش، الذي يرتقب أن يخلفه في مشيخة الزاوية.
■ مولده ونشأته
ولد الشيخ جمال الدين سنة 1942 بقرية مداغ التابعة لإقليم بركان شرق المغرب، حيث يقع مقر الزاوية البودشيشية. نشأ في بيئة روحانية، وتربى منذ نعومة أظافره على أوراد الذكر ومجالس العلم، ملازما لجده ثم لوالده الشيخ حمزة بن العباس القادري بودشيش، الذي سيخلفه لاحقا.
■ التكوين العلمي والجامعي
أكمل تعليمه الثانوي بمدينة فاس، في مدرسة “مولاي إدريس”، قبل أن يلتحق بكلية الشريعة بالمدينة نفسها حيث حصل على الإجازة، ثم انتقل إلى العاصمة الرباط ليتابع دراساته العليا بـدار الحديث الحسنية، حيث نال دبلوم الدراسات العليا في العلوم الإسلامية والحديث.
لم تكن حياته الجامعية منفصلة عن مسيرته الصوفية، إذ اختار موضوع “مؤسسة الزاوية بالمغرب بين الأصالة والمعاصرة” عنوانا لأطروحته لنيل الدكتوراه سنة 2001، معتبرا أن الزاوية ليست مجرد تراث روحي، بل مؤسسة فاعلة في بناء الإنسان والمجتمع.
■ حياة في الظل.. ثم إمامة الطريقة
على مدى عقود، بقي الشيخ جمال الدين في الظل إلى جانب والده الشيخ حمزة، الذي كان واحدا من أكثر شيوخ التصوف تأثيرا في المغرب والعالم الإسلامي. ولم يكن يظهر إلا في المناسبات الكبرى، كملتقى المولد النبوي الشريف، الذي تنظمه الزاوية سنويا، ويحج إليه الآلاف من داخل المغرب وخارجه.
وبعد وفاة الشيخ حمزة يوم 18 يناير 2017، أعلنت الزاوية، وفق وصية مؤرخة بتاريخ 3 أكتوبر 1990، أن الشيخ جمال الدين هو الخليفة الشرعي والروحي للشيخ الراحل. وقد جاء في الوصية:
> “الإذن الذي لدينا في تلقين الذكر والدعوة إلى الله على طريق الافتقار إليه، ينتقل بعد مماتنا إلى ابننا الأرضي مولاي جمال الدين”.
وقد عُرف عن الشيخ جمال الدين التواضع والزهد في المناصب، حتى إنه صرّح بعد إعلان الوصية:
“لم أطلب هذا الأمر، ولم أسعَ إليه، إنما هو سر أودعه والدي عندي، وحفظته في مكان آمن منذ عام 1990”.
■ ملامح الشخصية
اشتهر الشيخ جمال الدين بابتسامته الهادئة، وجلبابه المغربي الأبيض، ولحيته الناصعة، وصوته الخافت المملوء سكينة. نادرًا ما كان يتحدث للإعلام، لكنه كان حاضرا بقوة في وجدان المريدين، الذين كانوا يرون فيه امتدادًا روحانيًا لوالده، حتى إن أحدهم قال في حضرته:
“كلما نظرت إليك، شعرت كأني أنظر إلى الشيخ حمزة، فهل أنت هو أم هو أنت؟”، ليرد المريدون: “هو هو.”
■ الزاوية في عهده
رغم قلة ظهوره، شهدت الزاوية في عهده استمرارية قوية، خصوصا على المستوى الدولي، حيث تزايد عدد المريدين الأجانب، وازدادت أنشطة الزاوية في أوروبا وإفريقيا، تحت إشراف نجله الدكتور منير القادري بودشيش، الذي كان الواجهة الإعلامية والفكرية للطريقة، من خلال محاضرات ومداخلات في المحافل العالمية.
■ من يخلفه؟
بحسب العرف الصوفي في الطريقة، فإن مشيخة الزاوية تنتقل بموجب وصية واضحة، وبما أن منير القادري بودشيش كان ملازمًا لوالده ومشاركًا فعليًا في تدبير شؤون الزاوية منذ سنوات، فإن المراقبين يتوقعون أن يُعلَن عنه شيخًا جديدًا للطريقة خلال الساعات أو الأيام القليلة المقبلة، ليُكمل المسار الروحي الذي خطّه جده ووالده من قبله.
■ وداع شيخ الصوفية
برحيل الشيخ جمال الدين القادري بودشيش، تفقد الزاوية القادرية البودشيشية أحد أعمدتها، ويودّع المغرب واحدًا من أكثر رجالات التصوف هدوءًا وعمقًا وحضورًا باطنيًا. وقد بدأ المريدون يتقاطرون على الزاوية بمداغ لتقديم العزاء، والمشاركة في مراسم التشييع، التي يُتوقع أن يحضرها شخصيات علمية وروحية ووطنية بارزة.
“مات الشيخ.. عاش الشيخ”، هكذا يُردد مريدو الطريقة عند انتقال المشيخة، في إشارة إلى أن السرّ لا يموت، وأن الطريق لا ينقطع، وأن الولاية في التصوف امتداد روحي لا تفصله حدود الزمان ولا تُوقفه لحظة الرحيل.