شهدت بلدة توري باتشيكو التابعة لإقليم مورسيا الإسباني في الأيام الأخيرة أحداث عنف خطيرة طالت مهاجرين مغاربة، في مشهد أثار جدلا واسعا حول الخلفيات الممكنة لهذه الاعتداءات العنصرية التي وإن بدت أنها ذات أسباب محلية، إلا أنها في العمق تعكس خطابا سياسيا وإعلاميا مشحونا تجاه المغرب والمغاربة بدأ يتعاظم داخل المجتمع الإسباني منذ سنوات.
قد تبدو هذه الأحداث للوهلة الأولى مجرد ردود فعل محلية على واقعة إجرامية تورط فيها مهاجرون مغاربة في مورسيا، لكن عند تكبير الصورة وتمحيص طبيعة الخطاب السياسي الإسباني، وملاحظة كيف تطورت صورة المغرب في الإعلام والمؤسسات في السنوات الأخيرة، يكشف أن هذا النوع من العنف لا يمكن فصله عن عملية شحن مستمرة تُرسّخ صورة “التهديد المغربي”، وتُغذّي تصورات سلبية وسط فئات مجتمعية تجاه المهاجرين من أصول مغربية.
وعلى مدى السنوات الثلاث الأخيرة، تكررت مؤشرات متفرقة تؤكد أن التحريض غير المباشر على المغاربة داخل إسبانيا لم يعد مقتصرا على الهامش، بل صار يجد له صدى في استطلاعات رسمية، وفي خطابات أحزاب سياسية بارزة، وحتى في ممارسات رمزية تنطوي على مواقف معادية تُجاه المغرب أو قضاياه، وعلى رأسها قضية الصحراء.
استحضار المغرب كتهديد لإسبانيا في استطلاعات وتقارير رسمية
كشف استطلاع رأي حديث أجراه “المعهد الملكي الإسباني إلكانو”، أحد أبرز مراكز التفكير في إسبانيا، عن أن 55 في المائة من الإسبان يعتبرون المغرب التهديد الخارجي الأكبر لبلادهم، متقدما على روسيا (33%) والولايات المتحدة (19%)، في وقت تخوض فيه موسكو حربا مفتوحة ضد أوكرانيا وتُهدد أمن أوروبا بشكل مباشر.
وبرر معدو هذا الاستطلاع، أن نتائجه تعكس مسارا بدأ منذ أزمة سبتة سنة 2021، عندما اتُّهم المغرب بإرسال مهاجرين بشكل جماعي إلى المدينة المحتلة، وهو ما وُصف حينها بـ”الضغط الهجين”، رغم أن العلاقات الثنائية عرفت لاحقا انفراجا بعد إعلان حكومة سانشيز دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية لحل نزاع الصحراء.
وفي الوقت الذي من المفروض أن تعكس “المصالحة” الإسبانية المغربية، حالة “السلام والثقة” المتبادلة بين البلدين، إلا أن الاستطلاعات والتقارير الإسبانية الرسمية، تعود كل سنة لتشير بأن التهديد المغربي ضد إسبانيا مستمر، حتى بدون وجود أي مؤشرات واقعية تدعم هذه المخاوف.
هذا التباين بين نتائج الاستطلاع والواقع، لا يمكن أن تحمل إلا جوابا واحدا، وفق مراجعات “الصحيفة” لتطورات صورة المغرب في السياسة والإعلام الإسبانيين، وهو أن هذه النتائج تعكس في الحقيقة مخاوف الإسبان الناجمة عن “الشحن” و”التحريض” المستمر ضد المغرب من طرف وسائل إعلام إسبانية وأحزب سياسية، في حين أن المغرب بريء من تلك التهديدات والمخاوف.
وما يؤكد هذا المعطى، هو أن هذه التصورات متجذرة لدى فئات بعينها، خصوصا داخل صفوف اليمين المتطرف واليمين المحافظ، إذ يرى 56 في المائة من الناخبين اليمينيين -حسب استطلاع المعهد المذكور- أن المغرب يمثل تهديدا لإسبانيا، مقابل 29 في المائة فقط من اليساريين، ما يدل على شحنة أيديولوجية متنامية ضد المملكة.
سبتة ومليلية.. استحضار عسكري دائم رغم غياب التهديد
تلجأ العديد من الأطراف الإسبانية إلى ملف سبتة ومليلية بشكل دائم، لتبرير “التهديد المغربي”، بالرغم من أنه لا توجد أي دلائل واقعية تدعمه، حيث خرج في الأيام الأخيرة، الأميرال تيودورو لوبيز كالدرون، رئيس هيئة أركان الدفاع الإسبانية، ليقول إنه “لا يوجد أي سيناريو يُشير إلى تهديد مغربي لمدينتي سبتة ومليلية”، وذلك خلال مشاركته في منتدى “الدفاع والفضاء الجديد” بمدريد.
لكن رغم هذا التأكيد العسكري الرسمي، إلا أن استمرار طرح “الخطر المغربي” في النقاشات الدفاعية والسياسية يُسهم في ترسيخ صورة المملكة كطرف يُهدد وحدة التراب الإسباني، حتى في ظل غياب أي مؤشرات واقعية على نية المغرب استعمال القوة أو تغيير الوضع القائم في المدينتين المحتلتين.
وتُسهم مثل هذه التصريحات -وإن كانت تبدو في صورة تطمين للإسبان- في تعميق هذا التوجس، لا سيما حين يتم الزج بالمغرب في نقاشات تتعلق بأمن إسبانيا القومي، إلى جانب روسيا أو التنظيمات الإرهابية، وهو ما يُحمل دلالات رمزية خطيرة توحي بأن المملكة ليست شريكا بل “مصدر خطر محتمل”، رغم التعاون الثنائي في قضايا الهجرة ومكافحة الإرهاب.
ويرى متابعون أن هذا التصور المُسيّس يفتح الباب أمام إعادة إنتاج صورة نمطية للمغاربة داخل إسبانيا، تجعل من المهاجرين من أصول مغربية أهدافا سهلة لخطابات الكراهية، خصوصا حين يتم الربط – ضمنيا – بين الدولة المغربية وسلوكيات فردية معزولة لبعض المهاجرين.
وقد أدى هذا التراكم الرمزي إلى خلق سياق اجتماعي مشحون، تظهر نتائجه في مثل هذه الأحداث العنصرية، التي لا تحدث من فراغ، بل في بيئة سياسية تضع المغرب ومواطنيه تحت الشك الدائم.
اسم المغرب في السياسة الإسبانية.. إقحام استفزازي مستمر لقضية الصحراء
لا يتوقف الأمر عند الأوساط الشعبية أو العسكرية، بل يمتد إلى قلب المعادلات الحزبية في إسبانيا، حيث وُثقت في الأشهر الأخيرة مؤشرات عديدة على توظيف اسم المغرب وقضية الصحراء ضمن أجندات حزبية ذات طابع انتخابي أو أيديولوجي.
أحدث هذه المؤشرات تمثل في استضافة الحزب الشعبي الإسباني (الذي يملك أكبر قاعدة جماهيرية في البلاد)، خلال مؤتمره الأخير، لما يُسمى بـ”ممثل جبهة البوليساريو في إسبانيا”، عبد الله العربي، في خطوة وُصفت بـ”غير المفهومة والاستفزازية”، خاصة أن قضية الصحراء لم تكن ضمن جدول أعمال المؤتمر.
ويرى محللون أن هذه الخطوة من أكبر حزب في إسبانيا – وفي الوقت الذي يصف فيه وزير الخارجية الإسباني، خوسي مانويل ألباريس، العلاقات المغربية الإسبانية بأنها تعيش “عصرها الذهبي” -، فإنها تُعطي (الخطوة) إشارات مربكة للرأي العام الإسباني، وتُعمق الانطباع لدى المهاجرين المغاربة بأن مؤسسات سياسية إسبانية لا تزال تعتبر المغرب خصما جيوسياسيا، لا شريكا استراتيجيا، وهو ما يُسهم في إنتاج بيئة تسمح بتمرير مواقف عدائية.
وتُضاف إلى ذلك خطابات بعض الأحزاب اليمينية، وعلى رأسها “فوكس”، التي تُقحم المغرب والمغاربة في كل نقاش داخلي حول الجريمة أو الهجرة أو الأمن، في أسلوب لا يخلو من التحريض العرقي والسياسي الذي يجد صداه في الشارع الإسباني اليوم.
هل أحداث توري باتشيكو انعكاس لـ”الشحن السياسي” أم مجرد رد فعل عشوائي؟
في ضوء هذه المعطيات المتراكمة، تُطرح تساؤلات جدية حول ما إذا كانت أحداث العنف الأخيرة ضد مغاربة في توري باتشيكو مجرّد ردة فعل عشوائية، أم أنها نتيجة مباشرة لخطاب سياسي وإعلامي يُحمل المغاربة بشكل ممنهج وزر “التهديد الخارجي” لإسبانيا.
من الواضح أن أحداث توري باتشيكو لم تكن معزولة عن هذا السياق المشحون، خاصة أن بعض الأحزاب المتطرفة، وعلى رأسها “فوكس”، دأبت على استغلال أي حادث إجرامي معزول يُتهم فيه مهاجر مغربي من أجل تعميم الاتهام على الجالية المغربية بأكملها، وتحويلها إلى كبش فداء لخطابها الشعبوي.
ويبدو أن هذا المسار يزداد خطورة مع غياب خطاب سياسي وإعلامي عاقل يُحصن العلاقات الثنائية من الشحن الشعبوي، ويُعيد التوازن في تمثلات الإسبان تجاه المغرب، خصوصا أن استمرار هذه الموجات يُهدد التعايش داخل إسبانيا، ويُقوض الجهود المشتركة في مجالات الأمن والهجرة والاقتصاد.
في ظل هذا المناخ، يصبح من المشروع التساؤل، هل يمكن اعتبار العنف ضد المغاربة في بعض المناطق الإسبانية مجرد سلوك فردي؟ أم أنه انعكاس حتمي لخطاب سياسي تحريضي بات يجد له صدى عميقا في الشارع الإسباني؟