فردوس الاحمدي
على حافة البحر، حيث ينثني الجبل في خشوع، ويتنفس النسيم بلا استعجال، يمتد شاطئ “تشارانا” كسر دفين لم تفضحه بعد خرائط السياحة المستهلكة.
“تشارانا” يعيد ترتيب الداخل المزدحم
هناك، في حضن الطبيعة البكر، يلتقي الصمت بالماء، ويتداخل النسغ الأخضر للصخور مع زرقة لا تعرف الكدر، في مشهد لا يحتاج إلى عدسة لتوثيقه، بل إلى قلب يعرف كيف يُنصت.
“تشارانا”، كما يسميه أهل بني شيكر، أو “البحيرة” كما يشتهر في الألسن المحلية، شاطئ لا يطلب الزائر، بل ينتظره.
لا يرفع صوته، ولا يزاحم الأمكنة في استعراضها الصيفي، بل يظل هناك، بصفائه، على تخوم مليلية المحتلة، كأنما يحتفظ لنفسه بقدر من العزلة الراقية. تحيط به جماعات إعزانن وفرخانة، وتحتضنه تضاريس تعاقبت عليها الفصول دون أن تفرط في رقتها.
في هذا المكان، لا شيء يصنع على عجل. حتى الرمل هنا، ناعم كما لو أن الزمن صفاه مرات قبل أن يذره على الشاطئ. البحر، صافي العينين، يلتقي بالعابرين دون صخب، ويمنحهم ما يكفي من السكينة ليعيدوا ترتيب الداخل المزدحم.
ولا عجب إذن أن يكون ملاذا للعائلات، ولمحبي العزلة النبيلة، ولأولئك الذين يقيسون جمال الصيف بمدى ابتعادهم عن الضجيج.
شاطئ لم تمسسه يد الإسمنت بعد
بدر، أحد أبناء الناظور، يعرف هذا الشاطئ كما تعرف الطرق القديمة في ذاكرة القدم. يقول في حديث لـ “بلادنا24” إن “تشارانا مازال نقيا كما عرفناه صغارا، ولا يأتيه الناس إلا من توفرت له السيارة، وربما هذا ما أنقذه من الزحام والتلوث”.
وأضاف الشاب العشريني أن “الناظور فيها شواطئ كثيرة، بعضها من أجمل ما يكون، لكنها غير معروفة، ومزالت كما وضعها الله، لم تمسسها يد الإسمنت بعد.”
وراء الاسم حكايات، بعضها يقول إن “تشارانا” اسم لطائر انقرض وترك صدى جناحيه في ذاكرة المكان، وبعضها الآخر يردّه إلى جذر أمازيغي قديم يشير إلى “المدشر”.
لكن الحقيقة الأجمل، أن الاسم مهما اختلفت رواياته، لم ينل من سحر الموقع، ولا من فرادته التي تتجلى في التفاصيل الصغيرة؛ في انحناءة صخرة، في ظل شجرة تلامس الماء، أو في دفء عائلة تعد وجبة بسيطة على موقد الحصى.
جمال لا يكتمل إلا بالرعاية
وتجاور البحر مطاعم محلية بأطباقها المتواضعة، ويختار كثير من الزائرين أن يحملوا طعامهم من بيوتهم، لا بخلا، بل رغبة في أن يظل اليوم عفويا، دون فواصل تجارية أو طقوس استهلاكية.
وحتى حين يشوى اللحم على عجل، أو يُطهى الدجاج تحت خيمة صغيرة، لا يغيب عن المكان حس الانتماء، كأن كل زائر يعيد كتابة علاقة الإنسان الأولى مع الطبيعة.
ولأن الجمال لا يكتمل إلا بالرعاية، يسهر شباب المنطقة، بلا تكليف، على تذكير الزوار بأهمية النظافة، لا عبر شعارات مكررة، بل بأفعال تقال بصمت، كيس نفايات يُملأ، أو قارورة ماء تعاد إلى حقيبة صاحبها بدل أن ترمى. في “تشارانا”، لا أحد يعلم أحدا، بل الجميع يتعلم من صمت المكان كيف يكون الاحترام.
ليس في الشاطئ من التيارات ما يخيف، ولا من الحوادث ما يسجل، بل هو امتداد طبيعي للسكينة، لا يفصل بينه وبين الأمان سوى مد يجيء برفق، وجزر لا يُقلق.
في أعلاه مرتفعات يقفز منها الصغار، وفي جوانبه زوايا تحتمي بها العائلات، وفي وسطه فسحة مشتركة تذكر الجميع بأن للبحر لغة لا تتقنها إلا الأرواح الهادئة.