جميع الدول تسعى الى بناء وطن يقيم فيه مواطنون تجمعهم لغة وثقافة وأخلاق وعقيدة وتقاليد، هذه العناصرتسمى بالقيم الحضارية .
وحينما تسعى الدول الى بناء الوطن ، تبدأ بتهيئة مرافق التعليم والصحة والعدالة والامن وموازاتا مع هذه الركائز يتم أيضا بناء الانسان ، ولمعرفة مدى تاثير هذا الخيار على منظومة بناء الوطن ، لابد أن نذكر الجميع بمثال مشهور يتم تكراره كلما تم الكلام عن أهمية بناء الانسان في سياق الحديث عن بناء الوطن .
يحكى أن قدماء الصينيون لما أرادوا صد الغزات عن وطنهم ، بادروا الى بناء السور العظيم والذي تطلب سنوات عديدة ، ولما انتهوا من بناء السور العظيم ، هجم عليهم العدو ، وعوض تحطيم السور ، ذهبوا الى الحراس ومنحوهم شيئ من المال ، ودخلوا من الابواب وبدون مشقة .
الغرض من هذا السرد ، هو تبيان أن بناء الانسان يعتبر من الركائز الاساسية التي يجب الاهتمام بها واٍلائها العناية الكبيرة ، قصد شحن المواطن بالمبادء القويمة ، والاخلاق الحميدة ، والاقوال السديدة والافعال الرشيدة والعقيدة الصحيحة حتى يصبح مواطن نافع وعضو فعال في المجتمع وعنصر في مستوى المرافعات والدفاع عن كل ماهو أساسي بشكل حضاري وانساني واخلاقي .
والتحلي بهذه القيم يساعد على نمو الضمير والذي يعتبر في حد ذاته صمام الامان الذي يغلب الحق على الباطل ويغلب حب الوطن على حب الذات وتفشي الفساد ، ويغلب أيضا النية الحسنة والتي تفضي الى صيانة ممتلكات الوطن ، كالحدائق والمنتزهات وألعاب الاطفال . وكراسي الملاعب الرياضية ، وحاويات الازبال ، وبالوعات الصرف الصحي ، وأسلاك النحاس الكهربائية ، وسياجات الامان المتواجدة بجوانب الاودية والمنحدرات ، ومقاعد باحات الاستراحة ، والحدائق العمومية وعلامات التشوير الطرقية ، كل هذه الاشياء مع كامل الاسف لا تسلم من الاتلاف والسرقة والتخريب في بعض البلدان من طرف شباب لازال يحتاج الى رعاية والى دورات تحسيسية .
منذ أزيد من ثلاثة عقود وأنا أقطن بدولة ألمانيا ، وأدون في ذاكرتي ملاحضات اجتماعية تنم عن تفوق حضاري وقيم انسانية وأخلاقية قل نظيرها في جميع بلدان العالم ، تصوروا أن كل ساحة في كل مدينة ألمانية تتواجد مكتبة من الزجاج الشفاف تحوي مجموعة من الكتب قد يصل عددها الى 1000 كتاب ، والغريب في هذه المكتبات أنها ليست مغلوقة ولا محروسة ، بل تظل مفتوحة طوال الليل والنهار ، وليست بها حراسة ، وليست بها كاميرات مراقبة ، كل من أراد أن يأخذ كتاب أو ربما أكثر فذالك مسموح ومتعارف عليه ، وكل من انتهى من قرائة كتاب وأراد أن يساهم به في اٍثراء مكتبة الشارع ، فذالك يبقى متاح وممكن وقت ما أراد .
قمة الحضارة والوعي
فكرة نشر الوعي من خلال القراءة بواسطة هذه المكتبات المفتوحة تعتبر قمة الرقي والوعي والحضارة لدى الشعب الالماني ، وهذا لم يأتي من فراغ ، بل من سياسة تربوية منذ الصغر ، ففي دولة ألمانيا ومنذ الحضانة ، يتم تعليم الصغار القيم الانسانية كالاحترام ، والصدق ، والتسامح ، والمساوات ، والثباث في المواقف ، والجدية في العمل ، والانظباط بالوقت، والالتزام بقوانين الحياة العامة ، واللباقة عند التعقيب ، والتركيز على الديموقراطية ، والحفاظ على البيئة ، والحفاظ على النظافة ، وجمع الازبال ، واحترام ممتلكات الوطن ، كالاشجار والنباتات والمرافق العمومية ، وغيرها .
ولبلوغ كل هذه الاهداف تسلك دولة المانيا مجموعة من الاساليب في مقدتها التعليم في المدارس وحملات التوعية في وسائل الاعلام وفي الملتقيات ، كما أن الاقتداء بالأباء والمعلمين والمواطنين تلعب دورا حاسما في المجال ، وأخيرا فرض عقوبات وغرامات على المخربين والمخالفين .
ومن بين الاسرار التي تجعل الاطفال بدولة المانيا يستفيدون من التربية المدرسية ، هو اٍجبارية التعليم الى حدود سن 16 سنة ، مع العلم أن هناك عقوبات وغرامات مادية جارية المفعول على كل من تغيب عن المدرسة بدون سببب .
خلاصة الكلام : النظام التعليمي بدولة ألمانيا ، يتمتع بشهرة عالمية وذالك لكونه يرتكز على تعليم الطفولة المبكرة ، ونظام التعليم المزدوج ، وثقافة الشمولية ، وهو الامر الذي يجعل التربية في المقام الاول لدى أطفالها وشبابها وباعتراف الجميع .
محمد بونوار
كاتب مغربي مقيم بالمانيا