في وقت تشهد فيه المملكة المغربية واحدا من أسوأ مواسم الجفاف في تاريخها الحديث، وتُدق فيه ناقوس الخطر بشأن الأمن المائي وتهالك الفرشات الجوفية، واصلت الحكومة المغربية تشجيع زراعة محاصيل فلاحية موصوفة بأنها “عالية الاستهلاك للماء”، وفي مقدمتها الأفوكادو، الذي سجّل هذا العام قفزة غير مسبوقة على مستوى الإنتاج والتصدير، وفق ما أعلنته الجمعية المغربية للأفوكادو (MAVA).
ورغم الجفاف الحاد، بلغت إنتاجية موسم 2024-2025 من الأفوكادو نحو 130 ألف طن، مقابل 70 ألف طن فقط في الموسم السابق، أي بزيادة تتجاوز 85%، في وقت قُدّرت فيه الصادرات بنحو 100 ألف طن، بزيادة قدرها 67% مقارنة بموسم 2023-2024.
هذا النجاح التجاري، الذي وصفه رئيس الجمعية عبد الله اليملاحي بـ”الموسم الممتاز من حيث المناخ والمردودية وجودة المنتوج”، لم يكن معزولا عن تطورات سابقة، بل هو حلقة في مسار تصاعدي بدأ قبل سنوات، وشهد تضاعفا في المساحات المزروعة بهذه الفاكهة ثلاث مرات بين 2018 و2023، وفقًا لبنك Rabobank الهولندي.
ومع أن هذا الازدهار الفلاحي يحقق مكاسب اقتصادية وتصديرية مشهودة، إلا أنه يُثير في الآن نفسه أسئلة جوهرية حول الانسجام بين السياسات الحكومية الفلاحية والاستراتيجية الوطنية للماء، خاصة في ظل التصريحات المتكررة لمسؤولي الدولة عن “الندرة المائية”، و”ضرورة الترشيد”، بل وحتى إطلاق حملات تحسيسية واسعة النطاق تدعو المواطنين لتقنين استهلاك الماء.
وفي الوقت الذي تعاني فيه عدة مناطق في المغرب، مثل زاكورة، الراشيدية، ومراكش، أكادير من انقطاعات متكررة للماء الصالح للشرب، ويتم تقييد الفلاحين الصغار في استعمال مياه السقي، يتم توجيه دعم خفي أو مباشر لزراعات تصديرية تستنزف المياه بشكل كبير، وعلى رأسها الأفوكادو واللوز والبطيخ الأحمر، مما يعكس مفارقة خطيرة في ترتيب الأولويات.
ورغم تضاعف الإنتاج، لم ينعكس ذلك بزيادة في الأرباح، بل بالعكس، شهدت أسعار الأفوكادو تراجعا بنسبة 21% خلال عام واحد، وفقا لتصريحات رئيس الجمعية المغربية للأفوكادو، وهذه المعادلة توضح هشاشة الربح الفلاحي المرتبط بالتصدير الخام دون قيمة مضافة صناعية، في مقابل خسائر استراتيجية تتعلق باستنزاف الماء، وتفاقم الضغط على الأراضي الزراعية والمجالات الغابوية.
وبحسب وكالة Ecofin الاقتصادية، فإن نجاح هذا القطاع المغربي يقوم على أربعة ركائز رئيسية، هي التوسع الهائل في المساحات المزروعة، الظروف المناخية المواتية في منطقة الغرب شمال المغرب، سهولة ولوج الأسواق الأوروبية، وتزايد استثمارات القطاع الخاص.
إلا أن هذه العوامل الأربعة بالمقابل، تتجاهل البعد البيئي بشكل يكاد يكون كاملا، فالنجاح الاقتصادي لا يُترجم تلقائيا إلى نجاح مستدام، خاصة حين يكون قائما على استغلال موارد مائية مهددة بالزوال.
وفي هذا الإطار، تشير التقديرات إلى أن المغرب قد يُصبح قريبا ثاني أكبر منتج للأفوكادو في إفريقيا، متجاوزا جنوب إفريقيا، ليحل خلف كينيا التي يُتوقع أن تُنتج 135 ألف طن سنة 2025.
وقد سبق أن حددت الجمعية المغربية للأفوكادو هدف الوصول إلى 100 ألف طن من الصادرات بحلول 2027، لكن ذلك تحقق قبل سنتين من الموعد المحدد، ما يكشف عن زخم استثماري كبير واندفاع حكومي ضمني نحو الفلاحة التصديرية، غير أن هذا المسار، وفق العديد من الخبراء البيئيين، لا يمكن فصله عن السياق المناخي المقلق، الذي ينذر بتصاعد أزمة الندرة المائية، وانحسار المياه الجوفية، وتدهور التوازن البيئي في عدد من الجهات.
ويبدو أن الحكومة المغربية، اختارت الاستثمار في الفلاحة التصديرية كثمرة سريعة العائد، غير أن ذلك يتم دون رؤية متكاملة لأمنه المائي طويل الأمد، فنجاح الأفوكادو وغيره من الزراعات التصديرية قد يتحول إلى عبء بيئي واقتصادي إذا لم يُواكبه تخطيط مائي صارم، وإعادة نظر في خريطة الزراعات، وربط الدعم الفلاحي بمعايير الاستدامة.
وفي الوقت الذي توصي فيه المنظمات الدولية بتشجيع الزراعات الأقل استهلاكا للمياه، يواصل المغرب مسارا ذا طابع تناقضي، يحقق فيه أرباحا قصيرة الأمد، لكنه يستنزف واحدة من أثمن ثرواته غير المتجددة أي الماء.
وفي تصريح خصّ به “الصحيفة”، قال عبد الرحيم الناجي، أستاذ السياسات البيئية والخبير في إدارة الموارد المائية إن ما تحقق في قطاع الأفوكادو خلال الموسمين الأخيرين “لا يمكن اعتباره إنجازا مطلقا، بل هو نجاح محفوف بالمخاطر، ويُسائل بشكل مباشر منطق التخطيط الفلاحي في بلد يعاني من أزمة مائية مركبة”.
وأوضح الناجي أن “الارتفاع القياسي في إنتاج وتصدير الأفوكادو، وهي فاكهة معروفة عالميا بأنها من بين أكثر المزروعات استهلاكًا للماء، يحدث في وقت تعيش فيه المملكة سنوات عجاف على مستوى التساقطات، وانخفاضا مقلقا في منسوب السدود، وتدهورا سريعا في الفرشات المائية، لا سيما في المناطق التي أصبحت مراكز لزراعة هذه الفاكهة كمنطقة الغرب وسوس واللوكوس”.
وأضاف الخبير البيئي أن “زراعة الهكتار الواحد من الأفوكادو تتطلب سنويا ما بين 8 آلاف و12 ألف متر مكعب من المياه، أي ما يعادل استهلاك بلدة صغيرة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن المساحات المزروعة تضاعفت ثلاث مرات بين 2018 و2023، فإننا أمام نزيف مائي فعلي يهدد التوازن البيئي والعدالة المائية بين الجهات”.
وشدد الناجي على أن هذا النمو الفلاحي “تحركه اعتبارات تصديرية محضة، تخضع منطق السوق الخارجي وطلباته، في مقابل غياب منظور وطني استراتيجي يضع الأمن المائي والغذائي على رأس الأولويات، ويأخذ بعين الاعتبار محدودية الموارد الطبيعية”.
وحذّر من أن استمرار هذا التوجه قد يؤدي إلى ما وصفه بـ”التحول الهيكلي في التربة والمنظومة البيئية”، مضيفا: “نحن لا نتحدث فقط عن استنزاف المياه، بل عن تهديد مباشر للتنوع البيولوجي، وزيادة ملوحة الأراضي، وانخفاض قدرة التربة على التجدد.. والأخطر من ذلك، أننا نراكم أرباحا سريعة قد تنهار في أي لحظة عند أول أزمة مناخية أو قرار تقييدي من الاتحاد الأوروبي”.
وختم الخبير تصريحه بالقول:”إذا لم يتم ضبط التوسع في زراعة الأفوكادو وباقي الزراعات التصديرية المشابهة، وفق خارطة طريق تأخذ في الاعتبار الاستدامة المائية، فإن المغرب سيجد نفسه بعد سنوات أمام مفارقة مرّة: صرنا نصدر الخضرة والماء في عبوات، بينما يعاني المواطن من شح مياه الشرب في الصنابير”.
هدا يعني كيفما درن وحلة نجحنا وحلة سقطنا وحلة