خولة اجعيفري
في تطور لافت يُعزز من المؤشرات على تفاقم التوتر بين البلدين وبلوغه مرحل جد متقدمة وغير مسبوقة، بدأت عدة شركات طيران فرنسية كبرى في تعديل مسارات رحلاتها نحو القارة الإفريقية، مستبعدة الأجواء الجزائرية ومُفضّلة المرور عبر المجال الجوي المغربي، وذلك في سياق سياسي ودبلوماسي متوتر بين الجزائر وعدد من العواصم الإقليمية والافريقية.
وبحسب بيانات محدثة نشرتها منصات مراقبة الطيران في الوقت الحقيقي، على غرار الموقع السويدي Flightradar24 وموقع Flightaware، فإن شركتي إير فرانس (Air France) وكورساير (Corsair) قررتا إجراء تعديلات جوهرية على خطوط رحلاتهما المتجهة إلى دول غرب إفريقيا، بما في ذلك أبيدجان، لاغوس وكوناكري، مع تجنب المجال الجوي الجزائري لصالح المرور عبر الأجواء المغربية.
وأحد أبرز الأمثلة على هذا التغيير تم رصده في رحلة إير فرانس AF706 القادمة من مطار شارل دوغول في باريس (CDG) والمتجهة إلى مطار أبيدجان الدولي (ABJ)، والتي حلّقت يوم 8 أبريل 2025 عبر الأجواء المغربية بعد أن كانت تعتمد في السابق على المجال الجوي الجزائري، فيما تشير المعطيات إلى أن طائرة إيرباص A350-900 التابعة للشركة الفرنسية غيرت مسارها المعتاد لتتفادى الجزائر، ما يعبّر عن تحوّل استراتيجي في التوجّه الجوي لشركة الطيران.
ولم تكن “إير فرانس” الوحيدة في هذا التوجّه، فقد سارت شركة “كورساير” على النهج نفسه، إذ عدّلت هي الأخرى خط رحلة CRL984 خلال الفترة ما بين 7 و8 أبريل، متفادية المجال الجوي الجزائري ومُفضلة العبور عبر المغرب، وقد شمل هذا التغيير أيضًا وجهات إفريقية أخرى مثل لاغوس (نيجيريا) وكوناكري (غينيا)، ما يدل على أن التحوّل ليس مؤقتًا أو محدودًا، بل يعكس توجهاً أوسع لشركات الطيران الفرنسية.
وهذه التطورات تأتي بعد شهور من توتر العلاقات بين الجزائر وعدد من الدول في المنطقة، لا سيما المغرب ودول الساحل، فيما تزداد فرضية الخلفية السياسية لهذه التعديلات الجوية وزنًا في ظل عدم صدور أي توضيحات رسمية من الطرفين – لا من الجزائر ولا من شركات الطيران المعنية – بشأن الدوافع التقنية أو الأمنية التي قد تبرر هذا التحول، فغياب التفسير الرسمي يعزز من إمكانية ارتباط القرار بالسياق السياسي والدبلوماسي، أكثر منه بمستجدات لوجيستية أو تقنية.
كما أن هذا التحوّل يحمل أبعادًا استراتيجية، إذ يُبرز المغرب كممر جوي أكثر أمانًا وموثوقية بالنسبة لشركات الطيران الأوروبية، ويضع الجزائر في موقع جيوسياسي أقل انفتاحًا، خاصة إذا اتّسع نطاق المقاطعة الجوية ليشمل شركات دولية أخرى، فالمجال الجوي يُعد أحد أدوات السيادة الوطنية، لكن استعماله كأداة سياسية يُمكن أن ينعكس سلبًا على صورة البلد كمركز جوي إقليمي، وعلى علاقاته مع شركات الطيران العالمية.
وتطرح هذه التحركات تساؤلات حول مدى تأثر التعاون الجوي بين الجزائر وفرنسا، الذي كان يُعد من بين أبرز تجليات العلاقات الاقتصادية الثنائية بين البلدين، ذلك أن قرار شركات فرنسية بتجنب الأجواء الجزائرية لا يمكن فصله تمامًا عن تدهور العلاقات السياسية الذي شهدته الأشهر الأخيرة، خاصة مع تصاعد الانتقادات المتبادلة وبلوغها مرحلة القطيعة، وعودة الخطاب المتوتر من كلا الجانبين، بعدما فشلت مكالمة ايمانويل ماكرون وعبد المجيد تبون في احتواء هذه الازمة غير المسبوقة في تاريخ العلاقات الثنائية.
وفي ظل عدم تعليق أي جهة رسمية على هذه التغييرات، تبقى هذه المعطيات مفتوحة على عدة تأويلات، بين من يراها نتيجة طبيعية للواقع الإقليمي المتوتر، ومن يعتبرها إشارة إلى بدء قطيعة فعلية في مجالات التعاون التي كانت تستثنى سابقًا من التجاذب السياسي.
وفي ظل هذا التحول الذي تمليه الحسابات الجيوسياسية أكثر من اعتبارات الملاحة الجوية، يبرز العامل الدبلوماسي كعنصر حاسم في رسم خرائط الطيران فوق شمال إفريقيا، فالجزائر التي تعاني منذ أشهر من تصدعات متزايدة في علاقاتها الخارجية، تجد نفسها اليوم في عزلة متنامية، تتجسد حتى في سماء المنطقة.
فالعلاقات الجزائرية–الفرنسية تعيش واحدة من أكثر مراحلها توتراً منذ عقود، بعد تراكم الأزمات بين البلدين، من ملفات الذاكرة والتأشيرات، إلى التصعيد اللفظي والدبلوماسي المتبادل وقد زادت حدّة هذا التوتر مع تصاعد خطاب العداء من جانب شخصيات سياسية فرنسية نافذة، بعضها من داخل البرلمان الأوروبي، ما دفع الجزائر إلى اتخاذ خطوات مضادة تعكس قلقها من تغير المزاج السياسي في باريس.
على الضفة الأخرى، يزداد الشرخ بين الجزائر ودول الساحل، وخاصة مالي والنيجر وبوركينا فاسو، بعدما اختارت هذه الدول الانفصال عن فرنسا وتشكيل محور جديد أكثر ميلاً نحو روسيا، وهو خيار لم تجد فيه الجزائر حليفا بل منافسًا على النفوذ وتجلّى هذا التوتر مؤخرًا في سقوط طائرة مسيّرة جزائرية في شمال مالي، ما اعتُبر في المنطقة تصعيدا عسكريا غير مبرر، ساهم في تعقيد علاقاتها مع شركاء كانت تراهن عليهم لتعزيز حضورها الإقليمي.
وكل هذه المؤشرات تعكس مسارًا متسارعًا نحو الانكفاء الجيوسياسي، حيث تجد الجزائر نفسها، في ربيع 2025، أمام جملة من التحديات الدبلوماسية المعقدة، ليس فقط مع جيرانها كالمغرب بل مع شركاء تقليديين كفرنسا، ومع دول إفريقية كانت إلى وقت قريب تعتبرها حليفة استراتيجية. وإذا ما استمر هذا المسار، فإن المجال الجوي قد لا يكون سوى بداية لسلسلة من التحولات التي قد تطال مجالات اقتصادية وأمنية أوسع.