بقلم الدكتور محمادي لغــزاوي
في السنين القليلة التي تلت نهاية الحرب الباردة، عززت العولمة نفوذها على حساب القومية، مما أدى إلى تهميش الأفراد في السياسة لصالح الشبكات المؤسسية والتكنولوجية. لكن في العقد الأخير، عاد القادة القوميون إلى الواجهة، مستغلين أدوات العصر الحديث لترسيخ رؤى الزعامة القوية.
كان فلاديمير بوتين من أوائل القادة الذين تبنوا هذا التحول، حيث عزز سلطته منذ العام 2012 ، وسحق المعارضة، وسعى لإحياء مجد روسيا السوفيتية بل حتى القيصرية. تبعه شي جين بينغ في الصين، الذي تبنى نهجًا مماثلًا لكن بإمكانات أكبر، فيما صعد مودي في الهند لترسيخ القومية الهندوسية. ضف إلى ذلك صعود اليمين المتطرف و تنامي التيارات القومية في جل الدول الأوروبية.
غير أن التحول الأبرز جاء مع فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة عام 2016، حيث رفع شعار “أمريكا أولًا”، رافضًا العولمة ومدافعًا عن القومية و الشعبوية. لم يكن مجرد تابع لموجة عالمية، بل استمد رؤيته من تقاليد يمينية أمريكية معادية للشيوعية في الخمسينيات أكثر من استلهامه من انعزالية ثلاثينيات القرن الماضي. فبالرغم من هزيمته في 2020، لم تكن رئاسة بايدن سوى انحراف مؤقت، حيث استمر التيار القومي في الهيمنة على السياسات العالمية. القادة القوميون اليوم يشكلون أجندة دولهم متجاهلين الأنظمة متعددة الأطراف، ويتبنون رؤية تفويض شبه مقدس لحكمهم، حيث يستغلون النزعات المحافظة والجماهير الشعبية ضد النخب الليبرالية.
نظام عالمي جديد؟
يبدو أن العالم يسير نحو نظام دول أو حضارات متنافسة، حيث تحكم الدول وفقًا لتقاليدها الخاصة بدلًا من القواعد العالمية. يختلف هذا النهج عن نظرية “نهاية التاريخ” التي جاء بها فرانسيس فوكوياما، أو عن فكرة “صدام الحضارات” التي روج لها صامويل هانتنغتون في التسعينيات. وهذا الأخير، أي هانتينغتون، كان قد سبقه المفكر المغربي المهدي المنجرة الذي يعد أول من صاغ مفهوم صراع الحضارات حينما اعتبر حرب الخليج الأولى و العدوان على العراق بمثابة حرب حضارية أولى يشهدها العالم الحديث. فالنظام العالمي الجديد هو أقل صرامة وأيديولوجية، وأكثر مرونة وبراغماتية، حيث يعيد القادة القوميون تشكيل العلاقات الدولية على أسس تنافسية جديدة.
يعتمد هذا النظام إلى حد كبير على مستقبل رئاسة ترامب. كانت الولايات المتحدة القوة الدافعة خلف الهياكل الدولية ما بعد الحرب الباردة. كما كانت أمريكا بمثابة حارس الديمقراطية و الليبرالية الغربية. لكن الآن، مع انضمامها إلى تيار القومية، ستكون هي من يحدد قواعد اللعبة الجديدة. مع استمرار صعود القومية، تراجعت فكرة “الغرب” الموحد، وفقدت أوروبا مكانتها، مما جعلها عالقة بين التحالف الأمريكي المتغير ونظام عالمي أكثر تفككًا و تصدعا.
الجذور الحقيقية لـ الترامبية
غالبًا ما يربط المحللون سياسة ترامب الخارجية بحركة “أمريكا أولًا” في الثلاثينيات غير أن هذا يجانب الصواب. في تلك الحقبة لم تكن الولايات المتحدة قوة عظمى، وكان التيار الانعزالي يسعى لتجنب الصراعات. على العكس من ذلك يرى ترامب في القوة العسكرية أمرًا جوهريًا بل يسعى إلى توسيع النفوذ الأمريكي وليس تقليصه. فجذور نهجه هذا تنبع من معاداة الشيوعية اليمينية في الخمسينيات، وليس من الليبرالية الأمريكية التقليدية. كما أن هذا النهج لا يستند إلى نظريات أكاديمية، بل يعتمد على غريزته السياسية، ويتبنى مواقف عدائية تجاه النخب الليبرالية. يشترك في هذا مع مفكرين مثل ويتكر تشامبرز وبات بوكانان، الذين رأوا العولمة تهديدًا للهوية الوطنية والقيم التقليدية.
بالرغم من اختلاف أهدافهم، يلتقي ترامب مع بوتين وشي ومودي و قادة أحزاب يمينية في أوروبا في رفض فرض أيديولوجياتهم على الدول الأخرى. بوتين لا يسعى لفرض النموذج الروسي على الشرق الأوسط، وشِي لا يصدر الشيوعية خارج الصين، ومودي لا يروج للهندوسية عالميًا. بالمثل تماما لا يهتم ترامب بتصدير الديمقراطية الأمريكية أو يسعى إلى أمركة العالم، بل يركز على قوة الولايات المتحدة داخليًا. هذا التحول يعكس صعود القوى القومية وتراجع الهياكل و المنظومات الدولية التي حكمت العالم بعد الحرب الباردة، حيث لم تعد القواعد التقليدية ملزمة، بل أصبحت القوة والمصالح الوطنية هي المحدد الأساسي للعلاقات الدولية.
وسط هذا التحول، كانت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحول مفصلية. بوتين لم يغزُ أوكرانيا فقط بدافع استعادة أراضٍ روسية، بل لإعادة تعريف القواعد الدولية. رغم الانتكاسات التي واجهها، لم تؤدِّ الحرب إلى عزله دوليًا، بل أعادت تطبيع فكرة الغزو العسكري كوسيلة مشروعة لتغيير الحدود و فرض قواعد اللعبة القديمة الجديدة. في الوقت نفسه، عزز هذا الصراع الانقسامات العالمية. أصبحت مجموعة “بريكس” التي تضم الصين والهند وروسيا أكثر تماسكًا، فيما لم يقتصر دعم أوكرانيا على الغرب، بل انضمت إليه دول مثل اليابان وأستراليا. ومع ذلك، لم يعد هناك نظام عالمي موحد، بل تحالفات متغيرة بناءً على المصالح المتبادلة. رغم التقارب الظاهر بين الصين وروسيا، لا يوجد تحالف رسمي بينهما، إذ لا يرغب شِي في اتباع نهج بوتين العدائي تجاه الغرب. في المقابل، تبقى العلاقات الدولية أكثر مرونة، حيث تتفاعل الدول الكبرى بناءً على مصالحها الخاصة بدلًا من التكتلات الصلبة.
في ولاية ترامب الأولى، لم تحدث حروب كبيرة، وبدا العالم في استقرار نسبي. حوصرت روسيا في أوكرانيا، وبدا أن الصين لن تغامر بغزو تايوان، كما ساهمت اتفاقيات “إبراهام” في استقرار الشرق الأوسط. لكن اليوم، و مع تصاعد النزاعات، أصبح النظام العالمي أقل استقرارًا، مما يزيد من احتمالية حدوث أزمات أوسع نطاقًا. مع ذلك، قد تؤدي الولاية الثانية لترامب إلى تهدئة بعض هذه النزاعات. على عكس الإدارات الديمقراطية التي ركزت على نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، لا يهتم ترامب بشكل الأنظمة الحاكمة في الدول الأخرى، مما قد يقلل التوترات مع الصين وروسيا. قد يسهم ذلك في إيجاد تفاهمات دولية، وخفض التصعيد في أماكن مثل أوكرانيا والمحيط الهادئ.
مستقبل أمريكا والعالم.
قد لا يكون ترامب صانع سلام تقليديًا، لكنه قد يساهم في إعادة تشكيل النظام العالمي وفقًا لرؤية أكثر براغماتية وأقل أيديولوجية. و قد تستخدم الولايات المتحدة نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي ليس لتحقيق الهيمنة، بل لضمان مصالحها الوطنية بأقل تكلفة ممكنة. إذا تمكن ترامب من الاستفادة من “الحظ الاستراتيجي” كما حدث مع انهيار الاتحاد السوفيتي في 1989، فقد يحقق نجاحات غير متوقعة في السياسة الخارجية. لكن ذلك سيتطلب مرونة في التعامل مع التغيرات غير المتوقعة بدلًا من التمسك بالهياكل التقليدية. و خير مثال في هذا السياق هو حجم الضغط الذي مارسه ترامب على أطراف النزاع في الحرب الروسية الأوكرانية للوصول إلى صفقة وقف إطلاق النار.
ختاما، فبالرغم من تصاعد النزعة القومية وتراجع النظام الدولي القديم، لا تزال الولايات المتحدة تمتلك القوة الكافية للتأثير في المشهد العالمي، سواء بقيادة ترامب أو أي رئيس آخر. و مع ذلك، يبقى السؤال مفتوحا حول مدى قدرتها على الحفاظ على تفوقها في عالم متعدد الأقطاب، حيث تزداد الحاجة إلى التكيف مع المتغيرات الدولية و بناء تحالفات جديدة تضمن استمرار نفوذها في المستقبل.