فلاشات من الماضي : “الخلية: معمل النضال وصقل الشخصيات”
بقلم: جمال الغازي
حين تستحضرني الذكريات، أجد نفسي مدفوعا إلى ذلك الزمن الذي كانت فيه “الخلية” مرآة الروح، ومعمل الفكر، ومهد التجربة. في أواخر السبعينات، تلك السنوات التي وُسمت بـ”سنوات الرصاص”، كانت الخلية بالنسبة لي أكثر من مجرد تجربة سياسية؛ كانت نافذة على عالم يعج بالأمل والنضال، ومحرابا لصقل المبادئ والقيم. هناك، تعلمت أن الانتماء لقضية أسمى يُشعل الروح ويضيء الطريق وسط العتمة.
الخلية، هذا الكيان البسيط في شكله العميق في مضمونه، كانت القلب النابض للأحزاب الاشتراكية. لم تكن مجرد تجمع تنظيمي، بل منصة لصناعة الوعي وترسيخ المبادئ. كانت عملية قبول المنخرطين الجدد أشبه بطقس مقدس، تُمارس فيه الشفافية بأبهى صورها، وتُناقش فيه التفاصيل بحماسة وجدية.
ما أروع تلك اللحظات حين يُعلن انضمام عضو جديد! كان الحفل البسيط يتشح بجلال اللحظة، حيث تُسلم البطائق الحزبية وسط أجواء رفاقية نادرة. كان الانتماء للأحزاب اليسارية شهادة على الشهامة والنبل، ومفتاحا للعبور نحو غد يحمل بذور الحرية والعدالة.
كانت الخلية بحق “مصفاة النضال”، تنقي صفوفها من كل انتهازي ومتسلق، فلا مكان فيها إلا لمن كان مؤمنا بالمبادئ ومستعدا للتضحية من أجلها. ولأن الفكرة كانت أسمى من الأفراد، كان النقاش يحتدم أحيانا لساعات طويلة حول قبول عضو جديد، بل وقد يُرفع الأمر إلى اللجنة المركزية إذا تطلب الأمر.
داخل أروقة الخلية، كان العمل نابضا كطنين النحل. أناس بسطاء، ربما لم يتجاوز بعضهم المرحلة الابتدائية، تحولوا إلى قيادات ذات فكر متقد، ووعي سياسي عميق، وخطاب ساحر يجذب العقول ويأسر القلوب. هناك، تعلمت أن الفكر لا يحتاج إلى ألقاب أكاديمية، بل إلى شغف وإيمان وقلب نابض بالصدق.
لم تكن الخلية مجرد فضاء سياسي، بل كانت عائلة حقيقية. أذكر كيف كان الرفاق يتفقدون بعضهم في الأفراح والأتراح، وكيف كانوا يبادرون لحل مشاكل الآخرين بحس إنساني نادر. لقد كانت قيم التضامن والإيثار عنوانا للعلاقة بين الأعضاء، في صورة قد يجهلها الكثيرون عن الاشتراكيين في تلك الفترة.
الخروج إلى الشوارع لبيع الجرائد النضالية، خاصة قبيل عيد العمال، كان جزءا لا يتجزأ من نشاط الخلية. لم تكن المهمة سهلة؛ كنا نواجه المضايقات، السخرية، وحتى الاستفزازات. لكن كل تلك العوائق كانت تزيدنا إصرارا وقوة، وكأننا نغزل من التحديات خيوطا تشد عزمنا، وتعمق إيماننا بقضيتنا.
في تلك الفترة البريئة، وجدت نفسي ألج عالم الصحافة دون سابق تخطيط أو دراية. لم أكن أعلم أن ما كنت أفعله حينها يُعد جزءا من العمل الصحفي، بل كانت خطواتي عفوية، يقودها الشغف ورغبة صادقة في التعبير عن واقع الحياة من حولي.كان نتيجة مباشرة لتلك التجربة حيث كُلفت يوما بكتابة مقال عن معاناة بعض الأحياء في المدينة، ويوما آخر عن السينما، ويوم آخر صياغة تقارير …الخ وهكذا بدأت أتعلم كيف أنقل هموم الناس وأصور معاناتهم. لقد علمتني الخلية أن الكلمة أداة تغيير، وأن الصدق في التعبير هو السبيل الوحيد للوصول إلى قلوب الناس وعقولهم.
كانت الخلية معملا لصناعة المبادئ، ومختبرا لصقل النفوس، ومدرسة للإنسانية والنضال. لقد تعلمت منها أن الانتماء لقضية عادلة هو أعظم ما يمكن للإنسان أن يفعله في حياته. ورغم أن أزمنة النضال تلك قد ولت، إلا أن بصمتها لم تزل حية في قلبي ووجدان رفاقي.
الخلية لم تكن مجرد محطة عابرة في حياتي؛ بل كانت تجربة غيرت مساري، وجعلتني أفهم أن الحياة، بكل ما فيها من قسوة، يمكن أن تكون أجمل حين تُعاش من أجل الآخرين.
وإلى رحلة قادمة، تحمل معها ذكريات أخرى، وتجارب جديدة…