مريم، تلك الفتاة التي ورثت نقاء الندى في جمالها وصدق البراءة في بسمتها. إذا التقتك نظرتها، تلمس فيها دفئا يشبه شمس الفجر الأولى، وابتسامتها تزيّن الأفق بنور الأمل والعشق النقي. كانت كالبلبل، تغرّد بسعادة مشعة، تنبع من قلبها الممتلئ بصفاء ماء زمزم، لتحيي في البيت المسكون بصمت الأسى وجدران الحزن، حياة تفيض بلمسة من الفرح. حين تفتح نافذة غرفتها، يُشرق وجهها فيضا من الأمل، ويتراقص حولها غبار الشمس الذهبي، كأنها محاطة بخلخال من اضوء المشعل ينفذ من أجواء السطح إلى الأرض، وكلما مرّ هذا الضوء على وجهها، كان يترك لمعانا طفوليا يشع على ملامحها.
عاشت مريم مع والدتها حياة بسيطة، حياة كما يصفونها بـ”على قد الحال”، لكنها كانت مليئة بالحب والدفئ. سكنت ووالدتها الطابق العلوي من المنزل، وكبرت مثل وردة بيضاء في بستان هادئ، تنمو وتزهر، ناعمة، تنشر عطر الطيبة والعفة في كل زوايا البيت. كانت مريم ابنة مطيعة، تحب أمها حبا كبيرا وتمنحها عشقا لا يوصف.
لكن السنين تمر، وتمر معها الحياة، وقد بدأت الأم تشعر بثقل السنين وضعف الجسد. بدا لها وكأن حملا خفيا ينهشها من الداخل. كانت تحمل في صدرها سرا ثقيلا، أخفته عن مريم لسنوات طويلة، سرا يخشى كشفه، فهو يكاد أن يهدم كل ما بنته مع ابنتها من علاقة ومودة وحياة هادئة. باتت الأم متعبة، تائهة، فقد جاء وقت الحقيقة، وإن كان كابوسا ينتظرها كل ليلة.
ظلت الأم تترقب اللحظة المناسبة لتبوح بهذا السر العتيق. كانت تشعر بالذنب، وبعتاب مرير ينهشها من الداخل كل يوم، وكأن ضميرها تحول إلى سيف مسلط على صدرها الهزيل، وجعلها تسافر في سيناريوهات قاسية لتخيل رد فعل ابنتها، وتفكر هل ستتحمل الصدمة؟ هل ستتقبلها؟ أم ستنهار الأحلام، وتفقد مريم كل ما أحست به من حب وأمان.
بدأت الأم تنعزل شيئا فشيئا، حبست نفسها في غرفة صغيرة، كانت تلوذ بها كلما شعرت بالحزن والقلق. أياما بكت بحرقة، وأياما دخلت في صمت طويل واحتباس عن الخارج، تسجن دموعها في تجاعيد وجهها المتعب، وتجاهد لتخفي الألم عن ابنتها. كان هذا العذاب يلتهم روحها ويكاد يُنهكها، حتى أن طعامها صار قليلا، وشهية الحياة اختفت من عينيها.
أما مريم، فقد شعرت بشيء غريب في تصرفات والدتها. بدت لها كأنها شخص آخر، ليست تلك الأم التي عاشت تعرفها بضحكتها العالية في كل مساء، وبتبادلها الأحاديث مع الجيران فوق السطح، ولم تعد تستمتع بمسلسلاتها التلفزيونية كما كانت. تساءلت مريم: “ماذا أصاب أمي؟ هل أخطأتُ في شيء؟ هل قلت لها كلاما جرحها ولم أنتبه؟”
كانت تلك التساؤلات تلتهم قلب مريم، تحيرها وتزيد من قلقها على والدتها. لم تكن تفهم سبب عزلة أمها وحبسها لنفسها بين جدران البيت، وكأنها كانت تخفي عن الكل سرا مدفونا في أعماق دقات القلب.
…يتبع
مريم العذراء عام 2018