عبد اللطيف مجدوب
قصة مستلهمة من جي ديموبوسان Guy De Maupassant الكاتب الفرنسي الذي عاش في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر (1850-1893) حياة تعرف من خلالها إلى طباع القرويين النورمانديين، اشتغل بالصحافة ووظف منها عدة مشاهد ومواقف في كتاباته الروائية والقصصية، وتعتبر روايته كرة الشحم “Ball of Fat” أشهر أعماله، فضلا عن قصصه القصيرة التي ستأخذنا إحداها “زوجتي” إلى حيث القدر أحيانا تجري أحداثه ضدا على إرادة الإنسان.
قصتي مع الزواج
لم يقع قط أن كان الزواج قد دار بخلدي يوما، رغم أني تجاوزت عتبة سن الخامسة والثلاثين من العمر، وانغمست في حفلات صاخبة؛ لم يكن من السهل مقاومة سحر الفتيات النورمانديات الفاتنات، ولا قفشات الأصدقاء المتزوجين، التي كانوا ينثرونها من حولي؛ أشبه بخروف مُصوّف لم يمتد إليه مقص الجزّاز بعد، كثير منهن حاولن استدراجي إلى كمائنهن خلسة أو عن سبق إصرار وترصد، لكن ما أن تنبلج الأصباح حتى تضحى كل الأمواج العاتية زبدا من خلفي، فقد كنت صخرا صلدا؛ من الصعوبة بمكان أن تعلق به صدفة أو حورية بحر!
بداية قص الأجنحة
صادف أن تلقيت دعوة حضور زفاف لأحد الأصدقاء من ذوي اليسار والجاه. كان الليل بهيما والنجوم تمرق بين سحب داكنة عابرة، بين الحين والآخر، كانت تُخلي السبيل لنور قمري خافت يرسل بوميضه نحو طريق قروي موحل ومتعرج.. عبره كنتُ أجدّ السير؛ على متن عربة بجوادين؛ باتجاه قصر الحفل الذي بدت مشاعيله من بعيد تومض وتشع…
ازدانت حديقة شاسعة؛ بطول ملعب البيسبول؛ بكراس وطاولات حملت ما لذ وطاب، بحذاء ساحل رملي.. كان للمدعوين حرية التنقل والأكل والشراب في أنحائها؛ بين لحظة وأخرى؛ كان والد العريس يقدم ضيوفه من الأعيان، وفي آن لتأخذ الأوركسترا فصلا آخر؛ قرويون نورمانديون ينطّون هنا وهناك لا ضابط لنزقهم ورقصهم، أحيانا تخالهم ثيرانا في ميدان الكورّيدا، سكارى ومترنحون.. يشتد اللغط بينهم كلما انضمت إلى حضيرتهم نسوة أو صبايا غجريات.
بينما كنت أحاول أن أشق طريقي بين غفير المدعوين إذا بأحدهم يناديني من بعيد، وقد استقل بطاولة رفقة خمسة أصدقاء بمعية زوجاتهم، قدموا لي أنفسهم الواحد تلو الآخر، ونظرات الإعجاب أو السخرية تطاردني كلما لاحظوا عزوفي عن تناول الشمبانيا وتجاهل حلبة الرقص. رفع صديقي رينغو كأسه وخاطب أصحاب “الشلة”:
– “أقدم لكم رفيقي في المدفعية “شوبران”، أو بالأحرى عميد العزّاب.. بصحتكم جميعا”، على إثرها صدرت قهقهات تعقبها أخرى؛ لم أكن أعلم شماتة بي وإرثاء لحالي أم إعجابا وإكبارا! ثم عادوا يلحون علي في الكلام:
– “لعل عزوفك عن الزواج وراءه قصة أو بالأحرى مغامرة؟”، أجبت على مضض:
– “ليس لي شغف بالنساء كما قد يتبادر إلى ذهن أحدكم.. فقد تجدونني أحيانا متسكعا بينهن ولا أبالي بأسلحتهن وأفاعيلهن!”.
ضجت الطاولة بالضحك.. كانوا لا يتوانون عن التهام الفطائر والاستزادة من الكؤوس، انخرط الجميع في الرقص وسط غابة من السيقان البشرية؛ تتحرك مترنحة تارة وراقصة تارة أخرى على إيقاعات موسيقى الجاز الصاخبة.
بينا أنا تائه لا ألوي على شيء، إذا بلمسة خفيفة ترْبت على كتفي، استدرت فأكون وجها لوجه مع فاتنة تدعوني إلى الرقص، كانت نصف عارية ورائحة النبيذ تعطر أنفاسها، لم أجد بدا من الرضوخ لرغبتها الجامحة.. كانت ترقص بشكل هيستيري، دافعة بصدرها الناهد في كل اتجاه، أخيرا همست في أذني، لم أتبين من كلماتها سوى “… انتظارك”. بمجرد أن انفصلت عني لذْت إلى مكان قصيّ أرتب هندامي، حينها أحسست بميل جارف إلى الاستزادة من الشراب، لم أكن أعلم اتقاء لشر الصدف النسائية أم ضمانا لليلة خالية من الطوارئ المنغصة… كانت رأسي تتثاقل وأنا أفرغ في جوفي كأسا إثر أخرى، وبدوْت ثملا مترنحا، لم أكن أتبين خطواتي إلا بشق الأنفس.
خفتت الأضواء وشرعت الطيور تعود إلى أوكارها… غرف كان يربو عددها عن ثلاثين غرفة محتلة طابقين من القصر على الواجهة البحرية. حاولت صعود سلم الطابق فتعثرت، واستلقيت على حافة الدرج التقطت أنفاسي المتقطعة، وامتلكني شعور بأن الشراب سيقذف بي إلى الأسفل، لكن تمالكت بقبضة قوية على ذراع السلم، وصلت أعلى الطابق فملت يمينا أريد الولوج إلى غرفتي، وبعد لأْي فتحت الباب بعد أن استبد بي الشك بأني أدرت المفتاح في باب غير بابي..! ذهبت توا أتحسس بيدين مرتجفتين حافة السرير، خلعت حذائي ثم ارتميت بملابسي والنوم والسكر كانا يمتلكان كل جوارحي، فرُحْت في نوم عميق.
يا للهول!
استيقظت على وقع صوت صاعق يردد في الخارج:
– “كاترينا.. كاترينا..! منتصف النهار وأنت مازلت نائمة.. الفطور جاهز، افتحي وإلا سأقتحم الغرفة”.
عاد إليّ الكرى يداعب أجفاني، لكن لم ألبث سوى قليل حتى سمعت طرقات حادة على الباب؛ تتناهى إلى مسامعي، وفجأة دخلت خادمة، ولشد ما كان ذهولها وهي تلمحني في السرير أتفوه وأفرك عيني، عادت أدراجها مولْولة.. على إثره دخل صديقي رينغو، فبقي مشدوها وهو يلاحظ أن سريري جوار سرير أخته كاترينا!.. لم ينْبس ببنت شفه، بعد أن احمر وجهه غضبا وهو يحدّجني بنظرات جاحظة، غاب عني قليلا، كنت أسمع خلاله هرجا ومرجا بالخارج، وأنا مازلت حائرا في الخزية التي لحقتني.
دخل رهط كبير يتقدمهم حاكم المنطقة وصاحب القصر ملكوليس ببزته العسكرية الناصعة؛ يتدلى على خاصرتيه مسدس رشاش وسيف، فارتعدت فرائصي لرؤيته، حدّجني بنظرات غاضبة وأعينه لا تكاد تصدق وهي تحط على سريري تارة وعلى سرير ابنته تارة أخرى. أخرجوا كاترينا وصدمة الموقف تكاد تمزقها، حاولتُ مغادرة الغرفة على عجل لكن جوقة من الحرس الخاص منعتني، ودعتني لانتظار صدور حكم الدوق ملكوليس، بعد لحظات دخل الابن الصديق، ونثر في اتجاهي هذه الكلمات وأوداجه ما زالت محمرّة:
– “عليك الزواج بها..”
– “أنا لم أقترف إثما يوجب في حقي هذا الحكم الجائر.. لم ألمسْها.. بشرفي”
-” مداولات الأعيان أصدرت في حقك هذا الحكم.. وإلا..”
-” وإلا ماذا ؟!”
– “أعيان عديدون منعوه من إنزال القصاص بك، حتى لا تتعكر أجواء الفرح”
– “اسألوها.. لم أمسها.. ولا دنوت منها.. ولا كنت أعلم بمضجعها”
– “ولكن وجودك بجوارها كاف لقيام دليل على فضيحة.!”
– “بربك..! أريد شربة ماء، وأنا مستعد لكل شيء إلا الزواج”
– “.. ارحم نفسك وراجعها، وأنا هنا لأمنع والدي من أن يفرغ مسدسه في رأسك!”.
شعور إنساني أم عطف؟!
كنت أفكر مليا في تلك المخلوقة المسكينة التي قضت الليل كله بجواري، ولم يكن يعلم أحد منا بوجود الآخر، ماذا سيكون مصيرها بعد أن شاعت بين وجهاء القوم أن “سكيرا” اقتحم غرفة ابنة الدوق.. أحسست بوازع إنساني يجذبني إليها رغم أن وجهها حتى الآن لم أتبينه بوضوح.
ناديت الصديق وكلي تصميم على الخروج من هذه الدوامة:
– “.. وهل سيضمن لي والدك الدوق أمن حياتي، إذا ما نكث بعهده، فقد يقتلني في أعقاب الزواج؟”
– “نحن النورمانديون نفي بعهودنا”
– “طيب إني أقبل بهذا العرض؛ الزواج مقابل الإفراج عني”.
غاب عني طويلا قبل أن يعود وقد تغيرت ملامحه قليلا إلى الارتياح:
– “سيجهزون لكم العربة والقافلة التي ستصطحبكم إلى الكنيسة”
لم أكن أعبأ بالكاهن وهو يتمتم على مسامعنا بفقرات من الإنجيل، فجأة توقف وتوجه إلي سائلا:
– “أتقبل بكاترينا دوناساس ملكوليس زوجة لك؟”
– “نعم.. أقبل بها”، قلتها على مضض ولم تحن مني بعد التفاتة إليها وهي تقف بجواري مثقلة بالحلي وزي العرائس.
في أعقابها، تقدم والدها الدوق فطبع على جبينها قبلة، وهي مطرقة برأسها إلى الأرض، فهمس في أذنها بكلمات أعادتني إلى أجواء الرعب التي غشيتني ليلة البارحة، أشار إلى ابنه بأن شهر العسل ينتظرنا بمنزل ريفي ليس ببعيد عن القصر.
كانت كلمة “شهر العسل” توجعني وإخالها أحيانا بساطا أحمر سيفضي بي إلى مثواي الأخير!
وجها لوجه
بعد أن انفضت من حولنا جموع المهنئين والمباركين، قعدت لوحدي في غرفة النوم ذات نوافذ مشرعة على الساحل الغربي. كان الهدوء يسود المنطقة، لا يعكر صفوه سوى صخب الموج يتكسر على ضفاف الساحل، بينما كان قرص الشمس يحاول أن يحط بهالته الذهبية على المياه ويستحم في الأفق البعيد. فجأة دخلت العروسة، وقد تجردت من كل ملابس الزينة إلا من غلالة بيضاء كشفت عن كل أنوثتها. غمْغمت باستحياء في اتجاهي:
– “.. سيدي.! أتريد شيئا..؟”
لأول مرة سألتفت إليها وأسرح بنظراتي تعبث بكل مناطق جسدها، حتى إذا التقت نظراتنا خفضت رأسها إلى الأسفل، على إثرها قلت:
– “وأنت دلفت إلى هذه الغرفة، ماذا تريدين مني؟!”
رفعت رأسها؛ وبنظرات متناومة؛ قالت ببحّة بادية في صوتها:
– “أنا كلي لك.. اصنع بي ما شئت.. اقتلني إذا طوعت لك نفسك ذلك!”.
يسدل ستار القصة على
احتضنتها بين ذراعي بحرارة، ولم أكن أعلم أني سأكون سعيدا بزواجنا مدة ثلاثين سنة!