يتثاقل لسان محمد الطيبي عند الكلام بالدارجة المغربية، ويصير أكثر خفة عند التعبير بالأمازيغية الريفية، مرجعا ذلك إلى طبيعة النشأة التي حصل عليها في بيئته الأسرية الكائنة بالدنمارك، لكنه يؤكد أن التربية نفسها تجعل ممارساته اليومية متشبعة بالتقاليد والعادات الممارسة في الوطن الأم، وأن قلبه اعتاد أن ينبض ككل المغاربة بعشق بلد الجذور؛ وسيبقى كذلك على الدوام.
انتبه الدنماركي المغربي نفسه إلى أهمية الإقبال على العمل منذ الصغر، لذلك وجه اهتماماته التعليمية نحو التكوين المهني في سن مبكرة، مفلحا في الحصول على البراعة في الميكانيك، قبل أن ينخرط في مجال التسيير والتدبير ليتحول إلى واحد من أبرز الوجوه المشرفة على أداء شركة “سكانيا” في العاصمة الدنماركية.
عناية مركزة
وصل محمد الطيبي إلى عامه الأربعين، قضى منها سنتين في المغرب قبل استنفاد الباقي على التراب الدنماركي، إذ ازداد في الناظور قبل الحلول باسكندينافيا سنة 1984، خاتما سلسلة من 7 إخوة تحركوا في إطار تجربة هجرة أسرية لم تتنازل عن ملامح الهوية المغربية رغم الاستقرار بعيدا عن الوطن الأم.
ويقول محمد: “كبرت وسط البيت في الدنمارك كأننا في منطقة الريف بالمغرب، ممارساتنا هي نفسها في الفضاء الذي قدمنا منه، وحديثنا بالأمازيغية. وساعدني أنني صغير أسرتي في الحصول على عناية من الجميع، وسارت الدراسة بشكل جيد حتى الحصول على تكوين في الميدان الذي أحببت”.
بعدما وصل الطيبي إلى طور الدراسة الثانوية، وعكس باقي أقرانه الباحثين عن تخصصات تتلمس الطريق صوب اشتغالات مكتبية، اختار التوجه نحو التكوين المهني في شعبة الميكانيك، مراهنا على هذا الخيار في شق مسار متميز ضمن ميدان صناعة المركبات عموما، وتقديم إضافة نوعية وسط ورشات صناعة وصيانة الشاحنات خصوصا.
تكوين مستمر
عملت الظروف المحيطة بفضاء استقرار محمد الطيبي خلال الصغر على توعيته مبكرا بحجم الرهانات المحيطة بذوي الأصول الأجنبية في الدنمارك، إذ أمضى مرحلة الطفولة في منطقة مليئة بالمنتمين إلى الجاليات المسلمة وغيرها من الوافدين على اسكندينافيا، وبعدما بلغ مرحلة اختيار توجهه المستقبلي لم يتردد في قصد ما يتيح العمل لإبراز القدرات التي يتسم بها.
ويعلق “ابن الناظور” على تلك الفترة بقوله: “بعد 10 سنوات من التعليم الأساسي شرعت في التكوين للحصول على دبلوم في ميكانيك الشاحنات، وقد احتاج ذلك 4 مواسم كاملة من التركيز في الدروس النظرية والأنشطة التطبيقية قبل الالتحاق بإحدى الشركات المعروفة، ثم توالت التكوينات المستمرة لتنمية الخبرة”.
كما يعتبر الطيبي أن مواظبته على مواكبة المستجدات في عالم الميكانيك أتاحت له مسايرة ما يعرفه هذا المجال من تطورات مستمرة، والتعرف على التكنولوجيات الحديثة التي أضحت حاضرة بقوة في صناعة الشاحنات، والانفتاح على استعمالات الرقمنة في الاشتغالات التي يقوم بها منذ أواخر عقد تسعينيات القرن العشرين.
من الورشة إلى المكتب
جاءت البداية المهنية لمحمد الطيبي متعثرة في شركة “فولفو” بكوبنهاغن، إذ تم قبوله وتمكينه من عقد اشتغال قبل أن تتم مطالبته من طرف المدير، حينها، بالعمل متدربا على مدى 6 شهور دون أي أجر، وانتظار القرار النهائي بعدها، ما دفعه إلى الرحيل للبحث عن انطلاقة وظيفية أكثر توفيقا.
ويفسر محمد: “لم يكونوا يقبلون ذوي الأصول الأجنبية، ولم يفطنوا إلى حالتي إلا بعد توقيع عقد العمل معي، بينما العرض البديل المتوصل به كان بمثابة توجيه صوب المغادرة الطوعية. ومازلت أتذكر مرارة الإحساس بالعنصرية الذي تملكني وقتها، لكنني تحليت بالإصرار للبحث عن عمل في شركة أخرى من أجل إثبات كفاءتي”.
التحق الطيبي بشركة “سكانيا” للشاحنات، مستهلا العمل من موقع بسيط نظرا لتخرجه حديثا، متوليا مهمة تنظيف العتاد خلال الفترة المسائية من كل يوم اشتغال، ثم صار ميكانيكيا، وبعدها حرص على تقديم التأطير والتوجيه للوافدين الجدد على الورشات، وبعد مضي سنوات طلب منه تقديم عمل إداري لتغطية الخصاص الناجم عن مرض أحد المستخدمين، لكن أداءه من وراء المكتب تواصل 14 سنة حتى الحين.
طموح وتقدير
راكم محمد الطيبي الترقية تلو الأخرى، واستمر في الحصول على التكوينات المستمرة الضرورية، حتى أضحى المسؤول عن ورشات شركة “سكانيا” في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن، وما يعنيه ذلك من الإشراف على جميع العمليات المحاسباتية والتدابير الخاصة بالموارد البشرية، وحسم المعاملات ذات الصلة بالقرارات الإدارية والمعاملات مع الزبائن.
“لا أفكر في الوصول إلى موقع محدد، لكنني متأكد من كون مسيرتي لن تقف عند هذا الحد، وأتمنى أن أصير المدير التنفيذي للشركة على صعيد مملكة الدنمارك بأكملها، لكن ذلك إن لم يتحقق فلن يسلبني السعادة التي أشعر بها في موقعي المهني الحالي”، يؤكد محمد.
ويستحضر الطيبي ما حدث له في بداية مساره المهني، والاستياء العارم الذي تملكه في ذلك الوقت، ليضيف: “اتخذت القرار الصحيح بالرحيل غاضبا، لكنني حين أستجمع كل ما مررت به لاحقا أرى أن التعميم غير ممكن، فالعنصرية ليست حاضرة عند الكل، بل الحظ وضعني في موقف كي أقدر الناس الذين مدوا إلي أيدي المساعدة لاحقا”.
البراغماتية الإيجابية
يرى محمد الطيبي أن الجيل الصاعد من الشباب المنتمين إلى أصول أجنبية مطالب بالإقبال على الدراسة بجدية لضمان النجاح في الدنمارك، وأن يقدموا أفضل ما لديهم، مع الحرص على النظر بتمعن إلى تجارب من سبقوهم، واغتنام الفرص التي تتاح لهم ببراغماتية إيجابية.
ويضيف المنتمي إلى شريحة “مغاربة اسكندينافيا” أن شابات وشبان الجالية في الدنمارك، سواء من الوافدين على هذا البلد أو أولئك المزدادين على ترابه، عليهم الوعي بكون المستوى التعليمي الدنماركي يتسم بالجودة ويتيح اكتساب المهارات وتطويرها بفعالية، ويتسم بالمجانية في جميع المستويات، ما يستوجب الإقبال على تنمية المدارك حتى من طرف المشتغلين فعلا.
“أستاء حين أرى أشخاصا يرفضون الاجتهاد رغم تواجدهم في وضعيات اجتماعية صعبة، وهذه الحالات تحتاج مواكبة من مختصين للتخلص من هذا العيب الكبير، بينما هناك العديد ممن يركزون على مجالات دون أخرى، رغم أن الاشتغال في مهن كالبناء أو الميكانيك يتيح الوصول إلى مناصب عليا وتطوير الوضع المالي والاجتماعي بوقع أشد”، يختم محمد الطيبي.
طارق العاطفي | أمين الخياري