طارق العاطفي – أمين الخياري
تعتبر نجاة أعبوز أن تجربة حياتها في المجتمع النرويجي تتسم بمرحلتين أساسيتين حتى الآن؛ الأولى اتكالية تربط وجودها بالبيت والواجبات الكلاسيكية المطلوبة من المرأة، بينما الثانية مبادرة تحلت فيها بالجرأة اللازمة من أجل تخطي ظروف صعبة، وبالتالي جعل قرابة 4 عقود من العيش في هذا البلد الاسكندنافي تصل إلى حصاد إيجابي.
يرتبط اسم أعبوز حاليا بنشاط خدماتي ذي حمولة ثقافية في منطقة “هولمليا”، ضواحي العاصمة النرويجية أوسلو، خاصة بعدما لقي هذا المشروع، على مدى السنوات القليلة الماضية، رواجا كبيرا يفتح أبواب طموحات أكبر للتوسع واستحضار الهوية المغربية في المستقبل.
من الريف إلى النرويج
ازدادت نجاة أعبوز في مدشر “بروال” بجماعة بني سيدال الجبل، الكائنة بمنطقة الريف المغربية والمنتمية إلى النفوذ الترابي لإقليم الناظور، وفي الحيز الجغرافي عينه أقبلت على التمدرس حتى الوصول إلى المستوى الثالث ابتدائي، وبعدها رحلت لتجاور أسرتها الصغيرة في أوروبا.
تقول نجاة: “لم يكتب لي الالتزام بالتعلم النظامي، وما زلت مستاءة من هذا الأمر حتى الآن، لكنني أحتفظ بذكريات جميلة عن أولى سنوات عمري في المغرب، خاصة التواجد في قريتي بروال، وما زلت أزور المنطقة التي ولدت فيها بين الحين والآخر حتى لا ينقطع الوصال”.
غادرت أعبوز المغرب نحو الأراضي الألمانية بحلول سنة 1982، ملازمة والديها بعدما اختارا الاستقرار في فرانكفورت، بينما أبوها كان قد سبق جميع أفراد الأسرة إلى هناك أواخر الستينات من القرن العشرين، ما جعلها تعيش 3 سنوات في ألمانيا قبل الانتقال إلى الاستقرار في النرويج.
البداية في اسكندنافيا
تزوجت نجاة أعبوز في ربيعها الـ16 والتحقت بزوجها المقيم في مملكة النرويج، مجاورة أخا لها سبق أن وفد على هذه البلاد قبل وصولها إلى هناك، وبعد إبرام هذا الارتباط أقبلت على تأسيس نواة أسرية بغرض الاستقرار والحرص على منح أطفالها تنشئة جيدة ضواحي العاصمة أوسلو.
تورد المستقرة سابقا في ألمانيا: “لم تكن لدي رهانات ذات صلة بالدراسة أو العمل، لذلك بقيت ربة بيت طيلة 15 سنة، ووضعت تربية أبنائي الخمسة في صدارة الأولويات، بل لم أهتم بتعلم اللغة النرويجية واكتفيت ببعض التعابير العامة التي يمكن أن أستعملها من حين إلى آخر”.
في المرحلة الموالية، انخرطت أعبوز في أنشطة منشأة تعليمية خاصة بالنساء من أجل تعلم لسان المجتمع النرويجي، ثم انتقلت إلى مؤسسة أخرى مشابهة لتقوية مهاراتها اللغوية، لكن الطفرة حضرت عند طلاقها سنة 2007، واستيعابها ضرورة توفير عائد مالي لحاجياتها اليومية، وبذلك أعطت اهتماما أكبر لدروس اللغة بالتوازي مع التكوين في ميدان صناعة الحلويات، لتظفر بدبلومين في كلا المجالين.
استثمار في “هولمليا”
عملت نجاة أعبوز على إطلاق مشروع خاص بها سنة 2019، مستغرقة سنوات عديدة من التفكير في تفاصيله قبل الشروع في تنفيذه بمساندة من أبنائها، ليبرز إلى العلن في حلة مقهى ثقافي بالتجمع السكاني “هولمليا”، ضواحي العاصمة النرويجية أوسلو، وينجح في الحصول على إقبال عدد وافر من الزبائن الذين يقصدونه من مختلف الأنحاء.
بهذا الخصوص، تورد ذات الأصل المغربي: “استغرق التكوين في صناعة الحلويات وقتا طويلا ضمن الحصص التطبيقية، ولم أشأ إهدار المجهود المبذول في فضاء كلاسيكي لا يقدم إضافة نوعية ولا يرضيني، لذلك فكرت في افتتاح المقهى الثقافي بخدمات أبرزها ترتبط بخصوصيات الزبائن المسلمين من الرجال والنساء”.
تشرف أعبوز على اشتغالات المقهى عينه منذ افتتاحه، مستفيدة من مساعدة ابنين في الثلاثينيات من العمر، كما تتولى الوقوف وراء كل العمليات التي تهم صناعة الحلويات المنتمية بالكامل إلى الثقافة النرويجية، مع تعديلات تجعلها مكتسبة صفة “حلال”، زيادة على توفير حاجيات الزبائن من الخبز وبعض الأكلات البسيطة.
تركيز على الأهم
تؤكد نجاة أعبوز أنها تلقت استفسارات، عند إطلاق المشروع الخاص بها، من أناس ذوي أصول أجنبية استغربوا هذه المبادرة من امرأة مغربية أمازيغية، خصوصا مع تقدم عمرها وتوفرها على 5 أبناء و4 أحفاد، متسائلين عن إمكانية تحقيق النجاح في إدارة مقهى له حمولة ثقافية وخدمات نوعية ليست موجهة إلى فئة عريضة من المستهدفين.
وتضيف النرويجية المغربية عينها: “أتحلى بإصرار شديد منذ إطلاق النفس الثاني من حياتي، لذلك لا أعطي أهمية إلى الانتقادات ولا أستنفد الزمن في تقديم تبريرات لأشخاص يكتفون بالتفرج في الخطوات التي أقوم بها، بينما أستمد طاقة إيجابية من تشجيعات أناس أضحى المقهى مهما لهم، بينهم عدد كبير من المغاربة”.
كما تعتبر نجاة أن الحمولة الثقافية للمقهى الذي تشرف عليها قد أضحت ممتدة إلى ممارسات اجتماعية ببصمة نسائية، وتفسر: “تواجدي في هذا الفضاء الخدماتي صار يشجع إقبال نساء يحتجن التمتع بوقت يحفظ لهن خصوصياتهن ويتيح لهن راحة بالحديث معي. لذلك، أعتبر أنني نجحت ظرفيا في الوصول إلى هدفي، وتأكدت من ذلك بعد حصول ما أقوم به على اهتمام إعلامي أكثر من مرة”.
التوسع في الخدمات
أسفر الصدى الإيجابي الناتج عن خدمات المقهى الثقافي “هولمليا”، في الواقع وفي العالم الافتراضي لمواقع التواصل الاجتماعي، عن توسع نجاة أعبوز في الخدمات التي تقدمها للراغبين فيها، ومنها ما يتجاوز مساحة المحل المحتضن للمعاملات ليصل إلى البيوت وقاعات الاحتفال بمختلف المناسبات.
تقول “ابنة بروال” إن عددا كبيرا من الزبائن، خصوصا المنتمين إلى صف الجالية المغربية في أوسلو والنواحي، يلجؤون إلى خدماتها بطلبات توفير حاجيات احتفاليات عديدة، خاصة عند إقامة الأعراس أو بمناسبة عقيقة مولود جديد، وهو ما صار يتطلب توسيع الفضاء المخصص للتحضيرات داخل المقهى.
وتزيد أن “الممارسة العملية تقف، في الوقت الحالي، على ضرورة توسيع المطبخ نحو مبنى مجاور، والإجراءات الإدارية لتنفيذ ذلك تسير بشكل جيد، ما سيجعل مساحة المقهى الثقافي مضاعفة قريبا، وبالتالي فإن الجودة ستحضر بقوة أكبر، ولدي تصور لديكور داخلي مغربي سأنفذه للتعبير عن حبي للمغرب وأبناء وطني الأم”.
عصارة مجربة
نجاة أعبوز على نصح المنخرطين في تجارب للهجرة، خاصة النساء، بالإقبال على تعلم لغة بلد الاستقرار، أولا، ثم الحرص على مراكمة الخبرة النظرية والعملية في أي ميدان مهني يلائم القدرات ويساير الطموحات، وعدم التردد في البحث عن آراء ذوي الخبرات من الجيل السابق لتفادي عدد كبير من العثرات.
وتضيف الحاضرة في “هولمليا” حاليا: “أفرح كثيرا عند توصلي عبر الأنترنت بأسئلة عدد من المغربيات حول ما أفعله، وبينهن من تتواجد في الوطن الأم، حيث أعرفهن على ما مررت به لعل ذلك يكون مفيدا لهن في رسم مسارات تجعلهن ناجحات ومتميزات مستقبلا”.
“اليقين أن البداية تكون شاقة على الإنسان إذا بادر بالولوج إلى ميدان لا يعرفه، كما أن استقرار المرء في بلد لا يتقن لغة التواصل مع ناسه يصير مشكلا إضافيا، لهذا ينبغي التوجه إلى مسالك تعليمية وتكوينية لتفادي الوقوع في هذه الوضعية التي سبق لي أن اختبرتها، والاجتهاد لا يمكن أن يحصد إلا النجاح”، تختم نجاة أعبوز.