تتبع العالم على مدار ثمانية وعشرين يوما أطوار بطولة كأس العالم في قطر، هذه البطولة التي كانت مميزة بكثير من الفوارق عن البطولات السابقة، ولعل أبرزها، أن يكون تنظيم هذه التظاهرة ـ وللمرة الأولى ـ في الوطن العربي والعالم الإسلامي. هذه الميزة التي لن تمر عليها قطر مرور الكرام باللغو، فاشتغلت عليها بدقة عالية، ولم تغادر صغيرة ولا كبيرة يمكن أن تبرز بها البصمة العربية والإسلامية، إلا وجعلتها حاضرة في هذا المحفل العالمي، الذي لا شك في أنه أحدث هزة في الصورة النمطية التي ظل الغرب يحملها عن العرب عموما، والتي ما فتئ الإعلام الغربي يؤكدها في كل مرة.
ومن الأمور التي عززت بها قطر حضور الثقافة العربية الإسلامية في الحفل الختامي استحضار الشعر والشعراء، ليكون الشعر حاضرا في هذا المحفل إلى جانب الغناء والرياضة، هذه الغاية التي طالما نادى بها المثقفون في العصر الحديث، فكنت تجدهم في كل مرة يشكون من تغييبهم، وإقصاء الأدب والشعر، والانتصار للرداءة، ومن كون الشاعر لم يبق في مكانته التي كانت له في العصور الأولى، ويشكون من انقطاع العلاقة الحميمية بين الشاعر والجمهور، وغيرها من الشكاوى التي كاد أن يتفق عليها المثقفون عموما، والشعراء خصوصا. إلا أن قطر وكعادتها في هذا المحفل، خلقت المفاجأة، واستدعت الشعراء في الحفل الختامي.
نعم حقيقة وليس حلما، في هذا المحفل الذي يُستدعى فيه كبار النجوم في الغناء والرياضة والتمثيل، وهي المجالات الأكثر حيوية والتي تسيطر على معظم الجمهور في العالم. في هذا المحفل وأمام كل هذه الحشود، تستضيف لنا قطر” الشاعر”، وكأنها تحيي العظام وهي رميم، وتبعث المتنبي ليسطر نجاح العرب في تنظيم المونديال، أو تستقبل أبا تمام ليخلد هذا الإنجاز التاريخي في زمن توالت فيه الهزائم. إنها تستضيف ذلك الكائن المهمش، والعجوز المريض، أو بالأحرى، ذلك البطل الذي توفي قبل قرون ولم يبق إلا ذكره. قطر تعيد الحياة للشعر، وتبث الروح في عروقه، وتستدعي إلى المنصة شاعرين عربيين، الأول تميم البرغوثي وهو شاعر فلسطيني له جمهور عريض من الشعراء في العالم العربي، وجمهور محترم أيضا من غير الشعراء. شاعر شارك في برنامج أمير الشعراء ولو أنه لم يفز باللقب، إلا أنه فاز بقلوب عشاق الشعر والشعراء، شاعر استطاع أن يؤثر في الجمهور بشعره العمودي والتفعيلي، وأغلب قصائده المشهورة والمنتشرة بين الناس، هي قصائد عمودية، يساعد صوته الجهوري، وتساعد مخارجه السليمة، في أن يترك جرسُها صدى في الآذان، وتأثيرا في الفكر والوجدان، وربما جرّأت غير الشاعر على كتابة الشعر، وحمست الشاعر ليكتب الشعر، فأصبح للبرغوثي أتباع يقلدونه في الكتابة والإلقاء، ويدفعون عنه كل رأي قد يمس بالصورة الرمزية التي جعلوها له في خيالهم. إنه الشاعر الناطق بلسان الشعراء، فملأ جلساتهم، وشغل نقاشاتهم. فقد أحسنت قطر إذن إذ أخرجته للناس، وجاءت به إلى المونديال ليسمع العالم أجمع نداء الشعر، هذا الفن الذي جعل العرب يستغنون به عن كل فن، ووجَّه تفكيرهم وذوقهم توجيها لم ينافسه فيه أي كلام بشري من قبل ومن بعد. أما الشاعر الثاني فهو الموريتاني سيد محمد ولد بمبا، وهو أيضا له حضور بين الشعراء، ويعرفه كل من تابع الموسم الثاني من برنامج أمير الشعراء الذي فاز بلقبه سنة 2008.
حضور الشعر في مونديال قطر
تسعون ثانية، (دقيقة ونصف) هي المدة التي خصصت للشعر بين الغناء، في حفل دام حوالي ثلاث عشرة دقيقة، فكانت التسعون ثانية مقسمة إلى شوطين غير متكافئين، اختص الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي بالشوط الأول الذي دام حوالي دقيقة، فيما كان الشوط الثاني من نصيب الشاعر الموريتاني سيد محمد ولد بمبا في حوالي ثلاثين ثانية، ليتركا بعدها المجال لمواصلة الحفل على الأنغام الموسيقية التي بدأ بها.
الكثير من المنابر الإعلامية نشرت مقطع البرغوثي بعنوان “قصيدة عين الرضى” وتبعها في ذلك الكثير من المثقفين، وبعض من يكتب الشعر في الصفحات العامة، والحسابات الشخصية، وانتشر المقطع انتشارا كبيرا، وتجاوزت مشاهداته في بعض المقاطع المليون مشاهدة، وهناك من اجتزأ كلمة البرغوثي وحدها بعنوان “قصيدة عين الرضى”. والمنشورات التي تشيد بحضور الشعر والشعراء في المونديال سيل على مواقع التواصل الاجتماعي. فهل كان الشعر حاضرا؟
حضور الشعر في الحفل الختامي جعلني أتقصى الأمر، وأعود لمشاهدة الحفل وسماع قصيدة البرغوثي بالمناسبة. لأن مقاطع التواصل الاجتماعي تبدو وكأنها مبتورة. ناهيك عن المقاطع التي تجتزئ كلمة البرغوثي وتقطع مشاركة ولد بمبا. ثم إن أهمية هذه المشاركة لا تخفى على أحد، خصوصا وأن الحدث جلل، والجمهور عالمي، فكان لها ربما أن تحدث تأثيرا في أوساط العرب أنفسهم قبل غيرهم، فتستقطب جمهور الرياضة إلى الشعر، وتنبه إلى وجود فن آخر وهو فن المراوغة والرسم والتصوير بالكلمات، إنه الشعر، رياضة الفكر والأذن واللسان. وديوان العرب وتراثهم.
فهل كان لهذه الكلمة التي قرأها البرغوثي تأثير الشعر؟
هذا هو السؤال الذي لن نستطيع أن نجيب عنه إلا في حالة واحدة، وهي أن يعاد حفل الافتتاح ويشارك البرغوثي في تلك الدقيقة بقصيدة عمودية بدل تلك الكلمة التي قدمها، حتى نشاهد التفاعل، ونرصد الفروقات، ونلحظ التأثير. أما الآن فلا نملك إلا نقف إجلالا لقطر التي اهتمت بأدق التفاصيل، وأشركت الشعر العربي في ختام المونديال.
إن قدرة البرغوثي على التأثير بالشعر أو بالنثر لا ينكرها إلا جاحد، وإن مكانته الأدبية ومعه الشاعر ولد بمبا، غنية عن كل تعريف، فلا شك أنهما واعيان بما قدماه وبما يريانه مناسبا لهذا المحفل، أو ربما هذا ما وقع عليه الاختيار من المكلفين بتنسيق وإخراج الحفل. ولسنا نعلم كواليس هذه المشاركة. لكننا نظن بأن الرسالة التي بلّغتها قطر بتلك الكلمة، كان يمكن أن تبلغها بأبيات شاعر معاصر، وبأبيات البرغوثي وولد بمبا مثلا، خصوصا وأن الحاضرين هما شاعران انتشر صيتهما بالشعر أولا قبل كل شيء، وربما كان سيكون تأثير الكلمة أبلغ عند المتلقي، لأنها ستكون رسالة بلا واسطة تقريبا، فالواسطة هنا شاعر يلقي شعره، وليس شعر غير، فتحضر النية والقصدية في الإبلاغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وكانت سترجع للشاعر الوظيفة الريادية التي كان يؤديها. وإلا سيفهم الناس أنه لم يبق لهذه الأمة من الشعر إلا الذكريات، وأن آخر ما استطعنا أن نستشهد به هي أبيات للشافعي ـ على جلال قدره وعظيم منزلته ـ.
مراوغة أدبية
هذه الفسحة الأدبية التي تخللت الحفل الختامي قد تفهم على أنها رسالة مباشرة، أو رد فوري على من عارض تنظيم قطر لبطولة كأس العالم، وعلى كل من يرى نفسه وصيا على أمم الأرض يسيرها كيف يشاء. فولد بمبا كأنه يتحدث بلسان قطر ويقول للحضور الرسمي، ولمن يتابع من وراء حجاب: “ولَستُ بِهَيّابٍ لِمَن لا يَهابُني، وَلَستُ أَرى لِلمَرءِ ما لا يَرى لِيا” بيت شعري لا يحتاج للشرح. ويردف بقولة لمؤسس قطر “هي الحياة وإن طال الأمد تنصف الصادق الجسور دائما” في تلميح واضح إلى صبر قطر ومقاومتها لكل المكائد حتى بلغت الغاية في تنظيم البطولة العالمية. كما أن مقارنات البرغوثي في كلمته لها دلالتها السياسية، سواء ربطناها بالقضية الفلسطينية أو (بالقضية القطرية) فهي أهداف حسمت الفوز لصالح قطر في مباراة قصيرة سجلها كل من تميم البرغوثي وسيد محمد ولد بمبا.
أول ما يلفت الانتباه من الناحية الأدبية هو تصريح البرغوثي في كلمته “ما الذي يدعو شاعرا مثلي إلى الحضور؟ …” فهذا السؤال لوحده يؤكد كل ما قلناه من قبل حول مكانة الشعر في القديم وما آل إليه الآن، ودور قطر في بعثته هذه البعثة المفاجئة، فلو كان حضور الشاعر عاديا عندنا ما كان السؤال حول حضوره واردا ومنطقيا، ولما كان هناك من داع إلى التأمل في هذا الحضور، كما يمكن أن نقول في المقابل إنه لو كان للشاعر المكانة التي كانت له من قبل ما كان هذا السؤال أيضا ورادا ومنطقيا، فكأنك تسأل: ما الداعي إلى حضور وسائل الإعلام في هذا المحفل الرياضي؟ فهل سيكون سؤالا مقبولا، إلا إذا كنت ستجيب بإبراز وظيفة الإعلام لخالي الذهن كما يقال في النحو. ثم إنه يحتفظ بصفة الشاعر وينسبها لنفسه رغم أنه يشارك بكلام نثري، أفلا يكون السؤال مشروعا إذا تساءلنا لماذا خنست القصيدة في اللحظة التي احتجنا فيها إلى الشاعر، وقدمناه لكي ينطق بلسان الشعب القطري والأمتين العربية والإسلامية؟ بعدها يبدع البرغوثي في وصف كرة القدم وملعبها مقارنا بينه وبين الواقع ـ إذا أردنا أن نفهم الرسالة في عمومها ـ ومعرضا بالميز الذي تعاني منه البشرية جمعاء جراء تفاوت القوى والحدود بين بلدان العالم الأول والثاني والثالث، حتى أصبح العالم مطبعا مع فكرة إنسان من الدرجة الأولى يحق له العيش في أي مكان والسفر إلى أي مكان شاء، وإنسان من الدرجة الثالثة لن يستطيع الخروج من بقعة أرضية إلى أخرى إلا بشروط تكون غالبا تعجيزية ما يجعله محاصرا فيها إلى أن يدفن فيها.
إن الأدهى والأمر في تقديري، ليس عزوف البرغوثي عن الشعر وحضور شعر الأقدمين على لسان شاعر معاصر مع ولد بمبا، ولكن الأدهى والأمر أن تنقل كلمة البرغوثي على أنها شعر، وأن يتلقاها المتلقى العربي على أنها شعر. بل وجعلوا هذا الشعر قصيدة وجعلوا للقصيدة عنوانا، وهو الأمر الذي قامت به الكثير من القنوات والمواقع عبر صفحاتها في مواقع التواصل الاجتماعي، وزيادة في التمويه نشرت بعض المواقع ما قاله البرغوثي في كلمته على شكل مقطع شعري تفعيلي متفاوت (الأسطر) أفلا يشكل هذا الأمر خللا في بنية الشعر العربي؟ ألا يجعلنا ندرك الهوة الكبيرة بين الشعر وبين المتلقي العربي؟ ألا يفضح جهلنا؟
إن نشر الشعراء والمثقفين بعد الصحافة لكلمة البرغوثي على أنها شعر يعكس التعطش الشعبي والنخبوي إلى حضور الشعر في المحافل الرسمية والتظاهرات الهامة. وبذلك صُور في أذهانهم أول كلام قاله شاعر على أنه شعر. كما أنه يفضح الجهل بالشعر أساسا عند بعض من نشر الكلمة على أنها شعر حر، وهذا يفضح أيضا الغموض الحاصل عند جمهور الشعر بعد ظهور الشعر التفعيلي، حتى أصبحنا لا نفرق بين الشعر التفعيلي والخواطر. كما أنه يسائل كل الشعراء المعاصرين عما قدموه للشعر الذي حملوا لواءه واصطفوا تحت رايته. وفي هذا المحفل الرياضي العالمي الذي أعطيت فيه الكلمة للشعر بعد سبات عميق فلم يلبِّ الدعوة نقف متسائلين: هل ضيع البرغوثي هدفا في مرمى الشعر؟ أم أنه سجل هدفا ضد مرماه؟