بقلم – سعيد الوردي
*******الجزء الأول **********
بعد أن شربت مني الحياة كأس التعب الذي خلفه المسار الدراسي والمهني، رأيت في أفق بعيد جدا مناداة بلاد أخرى، وثقافة أخرى تنتظر فارسا آخر لاكتشافها والغوص في أغوارها العذبة المليحة؛ فلبيت ـ دونما تردد ـ النداء، ثم أخبرت حقيبتي أن تستعد للرحلة القادمة التي سأعلن فيها غزوا بريئا لبلد البحيرات فنلندا. لكن ـوقبل بداية الغزوـ كان من الواجب التاريخي إلقاء السلام على الجرح العربي الغابر، وإخبار الأندلس أن الخيبة لاتزال عنوان الدمعة العربية وخاتمة هطولها، فوضعت الرحال بمالقة، ثم رأيت حامد الثغري ماسكا عكاز الحصار، وجالسا على جنب كهف ”نرخا” الذي يردد صرخته الشهيرة ضد القشتاليين قائلا:
“إني تسلمت المدينة لأحميها لا لأسلمها”
هكذا كان المشهد الأول، وهكذا مضيت نحو استكشاف الربوع واستنشاق رائحة التاريخ لإحياء الروح وبعثها من جديد بأحرف ابن رشد، وحاضر الطلبة المغاربة الذين استقبلوني بحرارة العلم، وبذكرى مرورهم تلاميذا بثانوية حسان بن ثابت، فغردت مثل السنونو في الأندلس الأولى، فشكّلتُ صورا جميلة فيها، وتاريخا ياسمينيا صنعه الحرف العربي، والفن العربي… فمضيت بعد نهاية الرحلة الأندلسية تاركا ورائي ـ مثلما فعل المستعصم بالله ـ الجرح وسردابه العالق في الذكرى.
ماسكا تاريخنا سافرت ـ بشغف كبير ـ إلى فنلندا، فغازلت فيها كل البحيرات الخالدة، ورأيت منها شعبا آخر، وثقافة أخرى، ورونقا آخرَ يسمو بالروح ويمضي بها نحو حلم سريالي يشكل مفهوم الحضارة والتقدم، ومفهوم الإنسان الحديث الذي احترم إنسانيته وقدمها طبقا للعلم من أجل صناعة أرض أخرى تحت الأرض، وصمت آخر تحت الصمت… بفنلندا عرفت معنى الحياة، ورأيت تطورا جعلني أكتشف مدى انكسارنا وجرحنا وهزيمتنا الفكرية والعلمية، بفنلندا انطلقت رحلتي لاكتشاف العالم، فكانت مهدا للروح، وعنوانا بطّوطيا صنع تاريخ سفري الذي سيركب الحرف الفيسبوكي في مذكرات أسبوعية تقرّبني من نفسي الرحّالة وتخدش ذكرى الحقيبة التي رافقتني في كل الربوع الأوروبية.
بمطار هلسنكي، ودونما أية مقدّمات، جالست حقيبتي السوداء العامرة بالكثير من الآفاق، والكثير من الذكرى التي خلفتها الأندلس، وبعضا من خصلات ”ولادة بنت الخليفة المستكفي ” التي غزلت أعذب القوافي وأصفاها في دولاب التاريخ. بمطار هلسنكي أخبرتني أن البرد هنا يخيط السماء، ويسبح جليدا منتشيا في البحيرات، ويخدش حشرجة البُلعم، وأنا لا أعرف ـ منذ لقائي بالملك غوستاف الأول في كتب التاريخ ـ ممّرا بالمدينة، نظرت إليّ حقيبتي مرتجفة مثلما أفعل فتكلمتْ بصمت قائلة:
ــ لا مفر لدينا الليلة، فلا ألكسندر الأول هنا، ولا قصر غوستافَ مُشعّ ليأوي رعشتنا الهلسنكية؛ هنا مرقدنا، وغدا موعد آخر للذاكرة…
صمت قليلا، وابتسمت مثلما الطير، ثم سافرت إلى الحلم بتعب كبير وشوق أكبر لمعانقة هلسنكي غدا.
توسدت مقعدا بمطار فانتا، ثم غفوت ليتحول إلى مركب يسبح الحلم ويجابه أمواجه.
لم أشعر أبدا أن الليل طويل جدا، فكأن عيني غمزت ليتحول الظلام إلى نور ساطع يشبه الصباح. أيقظت حقيبتي التي كانت تغط في نوم عميق، وأخبرتها أن الرحلة ابتدأت من جديد، وأنها ستركب ظهري مرة أخرى وسنخطو نحو عالم جديد لم نره من قبل سوى في قنوات التلفاز وفي بقايا الأماني الطفولية. خرجت من المطار، وركبت الحافلة؛ أقصد أني ركبت ـ صدقا ـ مكوكا فضائيا يحمل كائنات لا تشبهني، كائنات شُقر يغزوها البياض وتُعمِّر قسماتها الابتسامات البريئة التي خدشها تواجدي بينهم؛ كيف لا يفعل، والسمار يغزو بشرتي ويصنع بها أسطولا حربيا يرش العطر الفلسطيني بالكوفية التي كانت تغطي عنقي.
من نافذة الحافلة رأيت أول مرة وجه فنلندا، وعينها الجميلة البيضاء هلسنكي، فسرحت دون سابق إنذار في وجهتي التي لا أعلمها، وفي طريقي القادمة في الأفق.
بهلسنكي محطات سريالية عميقة وباذخة، بهلسنكي انطلقت لاكتشاف العالم، بهلسنكي كنت ألكسندر اللحظة، وكانت اللحظة ألكسندرتي…
يتبع…
تحية خاصة لسي سعيد لعزيز ربما تخونك الذاكرة ولن تستحضر أسماءنا ووجوهنا ولكننا لن ننساك كنت سندا لنا وسراجا لٱلاف التلاميذ الذين مروا من ثانوية حسان ولطالما عهدنا فيك حب السفر والاستطلاع… نعم فنلندا بلاد السعادة وقد زادها سعيد الوردي سعادة ووردا نسأل الله أن يسعدك دنيا وٱخرة وكل أستاذ ومعلم
الف تحية لسعيد الوردي الرجل المحترم الودود ذو القلب الطيب احتراماتي لك. وتستحق كل التقدير
تحياتي لك اخي سعيد ورحلة موفقة مماوءةبالسعادة
Un bravo Mr said j’ai vit la scène en lisant vos lignes et j’ai aperçu vos pas douce au gare helski en toute confiance a soi même un
chapeau même aux gens qui vos semble , l’homme stricte