عندما أموت يا أمي فادفنوني في ذرى الجبال
سوف أنبت نعناعا على أطراف الحقول
شعر أمازيغي من مختارات شعرية قديمة جمعها حسن بنعقية
دقات قلب المرء قائلة له
ان الحياة دقائق وثواني
فاصنع لنفسك بعد موتك ذكرها
فالذكر للإنسان عمر ثاني
أحمد شوقي
رآى الكاتب والباحث الدكتور حسن بنعقية النور سنة 1966.. أي انه مات قبل يكمل عقده السادس بقليل ولكن عمر الأشخاص لا يقاس بالسنين بل بما أثلوا، وما خلفوا من نتاج فكري ومعرفي، وما تركوا للأجيال اللاحقة من مقدرات رمزية لا تقدر بثمن ولا تفنى بمرور السنين.. وقد سبق أن أشرت إلى معرفتي بالفقيد عندما جاءنا أستاذا في وحدة التراث الشعبي في كلية الآداب والعلوم الانسانية بوجدة بين سنتي 2004 و2006.. وهنا يجب أن افتح قوسا لأتحدث عن الرجل أستاذا.. وهي مسألة لن يستوعبها من ابتلي بأساتذة آخر الزمن الذين حملتهم ريح الصدفة أو الزبونية والمحسوبية أو مجرد بعض الأوفاق السيئة إلى مدرجات الجامعة فضلوا فيها وأضلوا.. ولا زلت أتذكر اليوم الأول الذي حل فيه بيننا كي يقدم محاضرات في “تاريخ الفكر في شمال إفريقيا”.. وهي محاضرات عن كتاب وفلاسفة وأدباء ينحدرون من شمال افريقيا ويكتبون باللاتينية والاغريقية من بينهم تيرونس آفر وأبوليوس وتيرتيليوس والقديس أوغسطين .. و نشرت في مجلة تاويزا بين 2000 و2010، وجمعها في كتاب ضخم يضم قرابة 700 صفحة بعد تعديلها وتنقيحها وترصيعها بالاحالات والتعليقات والهوامش.. والشاهد عندنا أن المحاضرة كانت مكثفة وغنية بموادها ومعلوماتها وأفكارها فلا يكتفي فقط بعرض الفكرة بل يتوسع في شرحها بشكل يشد الانتباه ويثير الإعجاب.
وحتى نكون موضوعيين فإن اقتحام مثل هذه المواضيع أمر في غاية الصعوبة والتعقيد فنحن أمام كتاب ومؤرخين وفلاسفة وثيولوجيين وأطباء ومسرحيين وجغرافيين ممن تندرج مؤلفاتهم ضمن الكلاسيكيات التي لا يعرفها إلا نخبة النخبة.. يعرفونها فقط ولم يسبق لهم أن كحلوا أعينهم بالنظر فيها ومجرد لمسها بله قراءتها.. وقد علق أحد الظرفاء بأن الكتب الكلاسيكية هي التي يعرفها الجميع ولم يقرأها أحد. وبالطبع، كان لزاما على من يتصدر لهذا الأمر أن يكون موسوعيا، متنوع المعارف، متعدد الاختصاصات، يجيد الكتابة بالوثب والقفز على حد تعبير أستاذنا عبد السلام بنعبد العالي، متمكنا من اللغات متضلعا في الإيتيمولوجيا وهنا سأجدني مضطرا لأفتح قوسا ثانيا لأتحدث عن نبوغه في اللغات ففضلا عن إتقانه اللغة الأمازيغية بكافة تنويعاتها في شمال افريقيا فهو يتقن اللغة العربية والاسبانية والانجليزية والفرنسية التي درس بها في الجامعة وانجز فيها اطروحة عن ميشال بيطور وأذكر انني تحدثت معه في احدى المرات حول رواية لميشال بيطور اسمها استعمال الزمن تنتمي لحساسية الرواية الجديدة، وكانت تعليقاته تنم على معرفة بدقائق الامور. وكم كان بارعا في الأصول الإيتيمولوجية للكلمات ومما أذكره شرحه لكلمة Afer التي هي من ألقاب الكاتب القرطاجي تيرونس، وهنا لابد من ذكر أن الرجل كان يبدو كبيرا بكل المقاييس فكأنك في كوليج دو فرانس أمام جورج دوميزيل او ليفي ستروس او ميشال فوكو .. أقول هذا على مسؤوليتي وبدون أدنى مبالغة.
لقد كان القصد من هذا العمل الضخم والطموح هو نفض الغبار عن تاريخ شمال افريقيا وعن رجالاتها الذين بنوا الحضارة الانسانية وأسهموا بحق في رقيها وسؤددها.. والحال أنهم كانوا يُقَدّمون إلينا على أساس انهم نتاج الثقافتين الاغريقية والرومانية وهو أمر يجانب الصواب. لأنهم رغم انخراطهم في هذه الثقافات المهيمنة والاستعمارية ورغم انهم كتبوا بالإغريقية واللاتينية فإنهم حافظوا على ما يربطهم بتربتهم وأصلهم وثقافتهم الأولى وهو ما حاول أن يبينه الاستاذ حسن بنعقية باجتهاد منقطع النظير من خلال العودة الى الاصول اللاتينية وفي الشروح والهوامش والتعليقات الموجودة في المراجع الانجليزية والاسبانية والفرنسية.
أما الشيء الذي انتبهت له في كثير من المرات هو حرصه الشديد على الوقت وعلى الا يتصل به أي أحد في المساء لانه ينام مبكرا. وقد عرفت فيما بعد بانه ينام مبكرا ليستيقظ في ساعات الصباح الاولى، ويبدأ في الاشتغال لساعات طويلة بدون توقف بروح اسطورية متوثبة لا تعرف الكلل ولا الملل . وهنا يجب ان افتح قوسا ثالثا لأقول بأن النجاح والذكر الحسن لا يتأتيان بالموهبة فحسب بل بالعمل الشاق والمضني وهو امر يعرفه كل من عرف الرجل عن كثب وإذا عدتم الى كلمة محمد بودهان التأبينية التي قالها في حق الفقيد ستلمسون كيف سخر الرجل حياته للقراءة والبحث والمعرفة والدفاع المستميت عن الهوية.
ستبقى خالدا في قلوبنا حتى نلقاك في ذرى الجبال
إذا مت يا أمي فادفنوني في ذرى الجبال
سوف أنبت نعناعا على أطراف الحقول