بقلم: محمد بوعنونو
لا يختلف عاقلان في صعوبة تحقيق المخطوطات، وما يكابده المحقق من تعب ومعاناة في سبيل تحقيق هذا الكتاب أو ذلك، فإخراج الكتاب من الظلمات إلى النور، وجعله ميسرا في متناول القراء في مشارق الأرض ومغاربها، بعدما يكون المخطوط قد استولى عليه النسيان وألحقه قصور الهمم في خبر كان، كل ذلك أمر دونه خرط القتاد.
لكن الله عز وجل قيّد لهذا العمل النبيل رجالا لا تثنيهم عن تحقيق المخطوطات صعوبات أو معاناة، حيث يكرسون جل حياتهم في خدمة الكتاب والمكتبات، وعرض ثمرات جهدهم ونتائج بحثهم ومكابداتهم على مائدة الإنسانية جمعاء.
ومن هؤلاء الرجال الذين تركوا بصمة في مجال التحقيق الدكتور سيدي محمد عيسوى، الأستاذ بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة والمشارك في الكثير من اللقاءات الأكاديمية، والذي يظهر جهده ومعرفته بخبايا التحقيق من خلال تحقيق كتاب “سمط الجوهر في الأسانيد المتصلة بالفنون والأثر”، للعلامة المغربي سيدي أبي حامد الدمناتي المتوفى عام 1253هـ.
فمن هو أبو حامد الدمناتي؟ وما موضوع كتابه هذا؟ أين تتجلى أهميته؟ ما هو عمل المحقق في هذا الكتاب؟ كيف يمكننا الإستفادة منه؟
ذلك ما تحاول هذه الأسطر الإجابة عنه.
ترجمة أبي حامد الدمناتي:
يشير المحقق إلى ندرة المصادر التي ترجمت لهذا العالم المغربي، بل حتى التراجم القليلة التي تحدثت عنه اكتفت ببيان الشق العلمي من حياته، ولم تشر إلى تاريخ ولادته ونشأته ومراحل طلبه للعلم والأسرة التي ينتمي إليها.
فكان زبدة ما توصل إليه المحقق أنه: أبو حامد العربي بن محمد الدمناتي الأصل، الفاسي الدار والمنشأ، ويكنّى أيضا بأبي التوفيق، أخذ العلم عن كبار علماء عصره كالمولى سليمان والأديب حمدون ابن الحاج وغيرهما، كما أخذ عنه العلم هو خلق كثير.
يذكر المحقق حفظه الله إشارة مهمة عثر عليها أثناء البحث، تتعلق بالمنصب الذي كان يشغله الإمام أبو حامد الدمناتي، فقد كان كاتب السلطان، وهذه مهمة وخطة لا يتولاها إلا من كان على قدر كبير من العلم والفهم والأدب. أشارت كتب التراجم التي ترجمت له أنه كان من كتاب المولى سليمان.
ولا نعرف شيئا عنه بعد ذلك. وقد عثر المحقق على إشارة مهمة تتعلق بهذه الفترة، وهي الإشارة الواردة في إجازة الشيخ إسماعيل سفر له، والمؤرخة بتاريخ أربعين ومائتين وألف (1240هـ)()، وهي أنه طلب من الدمناتي أن يرسل إليه رسما خاصا من قبل السلطان عبد الرحمن بن هشام. هذه الإشارة تدل على أن الدمناتي كان لا يزال من كتاب ديوان المولى عبد الرحمن ابن هشام، أو كانت له حظوة مستمرة لدى السلطان، دفعت هذا العالم المُجيز أن يطلب وساطته للحصول على ظهير التوقير والاحترام.
توفي رحمه الله عام 1253هـ/ 1837م.
تعريف كتاب “سمط الجوهر في الأسانيد المتصلة بالفنون والأثر”.
الكتاب عبارة عن فهرسة ذكر فيها المؤلف أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم العلم وانتفع بهم، كما ضمّنها أسانيده والكتب التي رواها عن شيوخه، والتي كانت تمثل أنذلك البرنامج الدراسي والمقرر العلمي الذي ينبغي لطالب العلم أن يتدرج في إطاره.
فالكتاب إذن فهرسة نفيسة، والفهارس عموما وتسمى أيضا البرامج والمشيخات نوع من الكتب يذكر فيها المؤلف أسماء الشيوخ الذين أخذ عنهم العلم والكتب التي درسها عليهم، وقد تتضمن إشارات تاريخية واجتماعية مهمة جدا قد لا نعثر عليها في غير هذا الصنف من الكتب.
ألفت هذه الفهرسة في النصف الأول من القرن الثالث عشرالهجري، أي في عهد السلطانيين الجليلين سيدي محمد بن عبد الله ونجله مولاي سليمان، فكانت بذلك انعكاسا مباشرا للحركة العلمية والثقافية التي نشطت في هذا العصر.
ذكر رحمه الله في هذا الكتاب 62 شيخا أخذ عنهم وانتفع بهم سواء في المغرب أم المشرق، ووصل عدد الكتب التي رواها عنهم وذكرها في هذه الفهرسة إلى 141 كتابا في سائر العلوم وأصناف الفنون.
أهمية هذه الفهرسة.
يمكن بيان أهمية هذه الفهرسة النفيسة من خلال العناصر الآتية:
احتوت على العديد من المعلومات التاريخية المهمة.
ضبطت الروايات وحفظت طرق الأخذ والسماع.
ضبطت الكتب والمصنفات ضبطا جيدا.
تضمنت كثيرا من مصادر الحديث النبوي.
أعطت صورة واضحة المعالم عن الحالة العلمية والاجتماعية والاقتصادية لمغرب القرن الثالث عشر، وهي الفترة التي سبقت الإستعمار الفرنسي، مما يجعل منها نافذة مهمة للباحث في تاريخ المغرب.
سجلت بكل فخر واعتزاز تضامن المغرب مع الجزائر إثر محنة الإستعمار، حيث قال في هذا الصدد “ومن أهل ثغر الجزائر قطع الله عنها دابر العدو الكافر”.
ترجمت لبعض الشيوخ والعلماء.
تضمنت إشارات إصلاحية مهمة لتقويم سلوك الناس.
الإطار الذي جاءت فيه الفهرسة.
دأب العلماء قديما على تدوين مروياتهم وتقييد كل ما أخذوه عن الشيوخ في كتب خاصة، أطلقوا عليها اسم الفهارس أو البرامج أو المشيخات …
فحذا أبو حامد حذوهم، وصار على نهجهم واقتفى سنتهم، فألف هذا الكتاب للتعريف بشيوخه، وبيان أسانيده وإظهار الكتب التي درسها. وهذا في الحقيقة وكما اعتبره فضيلة المحقق أداة للتلاقح الثقافي والتواصل الحضاري ووسيلة مهمة للتقريب بين مختلف الشعوب والحضارات، إذ أن أواصر العلم ووشائج المعرفة أقوى من كل آصرة.
منهج المؤلف في فهرسته.
قسم كتابه هذا إلى مقدمة وستة فصول وخاتمة، فالمقدمة في فضائل السنن والآثار، والفصل الأول في ما لابد منه من إتقان الرواية ، والفصل الثاني في فضل طلب الحديث، والثالث في شرف فضل الإسناد، والرابع في كيفية الأخذ عن المشايخ، والخامس في تقسيم مراتب الشيوخ، والسادس في آداب المتعلم، والخاتمة في ذكر الأسانيد الموعود بها.
لكن يشير المحقق إلى أن هناك بترا في آخر الكتاب، لم يظفر به في النسخ التي اعتمدها في التحقيق.
لغة وأسلوب الكتاب.
يتميز هذا الكتاب بأسلوب أدبي راق، ولغة فصيحة جزلة، تعكس الملكة اللغوية التي كان يتمتع بها أبو حامد الدمناتي.
يكثر في الكتاب الأسلوب الخبري، لكن يلجأ أحيانا إلى الأسلوب الإنشائي عن طريق النصح أو التحذير أو الأمر أو النهي مثل قوله: { فليحذر ـ فليعلم ـ …}.
وقد كانت هذه الأوامر والنواهي بمثابة توجيهات إصلاحية نظرا لما عرفه عصره من مجاعات وأمراض وأوبئة عزا أسبابها إلى البعد عن الله.
عمل المحقق في هذا الكتاب.
إن القارئ لهذا السفر العظيم لا يستطيع إنهاءه دون أن يشهد لفضيلة الدكتور سيدي محمد عيسوي بجودة العمل ودقة المنهج ورصانة السبك وحسن الصياغة وجمالية العرض، مع التواضع الجمّ ونسبة الفضل لأهله، مما يعكس الملكة القوية التي يتمتع بها فضيلة الأستاذ في مجال التحقيق خاصة ومجال البحث في التراث الإسلامي عموما.
ومهما يكن من شيء فقد قسّم هذا العمل إلى قسمين كبيرين، قسم للدراسة تحدث فيه عن فهارس العلماء وبين أهميتها وفضلها، ثم عرّف السند والإجازة وما يتعلق بهما، وقد أحسن في ذلك غاية الإحسان، إذ لا يستطيع القارئ خصوصا المبتدئ فهم الكتاب فهما جيدا دون الإلمام ببعض المصطلحات المتعلقة بالفهارس والبرامج.
ثم ختم قسم الدراسة بالحديث عن ترجمة أبي حامد الدمناتي، وعن تعريف فهرسته الموسومة بـ” سمط الجوهر في الأسانيد المتصلة بالفنون والأثر”.
أما القسم الثاني وهو قسم التحقيق فقد أجاد فيه غاية الإجادة، حيث خرّج الأحاديث والآيات القرآنية، وضبط الولادات والوفيات، وضبط أسماء الشيوخ والعلماء على كثرتهم، وترجم لبعضهم، وتدخل في أحيان كثيرة للتصحيح والإضافة والتصويب، ثم علّق على ما يستحق التعليق، إلى درجة يمكن من خلالها اعتبار الهوامش فقط مادة علمية مستقلة، غنية جدا بمصادر الكتب والأعلام والإشارات المهمة التي لا يستغني عنها الباحث عموما، كل ذلك يعكس المجهود الكبير الذي بذله المحقق في هذا الكتاب، والذي اعتمد في تحقيقه ثلاث نسخ كانت من وراء إخراج هذا الكتاب الماتع في أجمل صورة وأبهى حلّة.
غرض المحقق من تحقيق الكتاب.
صرح فضيلة الأستاذ بغرضه من تحقيق هذا الكتاب، ألا هو لفت انتباه الباحثين إلى هذا النوع من العلوم، وإماطة اللثام عن هذا الصنف من الكتب، والتعريف بكتاب “سمط الجوهر في الأسانيد المتصلة بالفنون والأثر” الذي كاد البلى أن ينخره في رفوف المكتبات لولا فضل الله الذي سخر له هذا الأستاذ الكريم ليخرجه من الظلمات إلى النور.
خاتمة.
إن هذا النوع من الكتب لهي من الأهمية بمكان، إذ يلتقي فيها ما هو علمي بما هو ثقافي، وما هو اجتماعي بالذي هو اقتصادي، إنها سجلات تاريخية طافحة بالمعارف والمعلومات النادرة التي قد لا نجدها في غيرها من الكتب.
وما كان هذا شأنه فحري أن تصرف في سبيله نفائس الأنفاس دراسة ومدارسة وتدبرا وفهما، لكن الناس اليوم عنها غافلون وبفضلها جاهلون، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
فهل سيهتم الباحثون بهذا النوع من الكتب ويعيدون لها الاعتبار، أم أنها ستبقى حبيسة المكتبات حتى يأتي جيل آخر يستحق هذا الشرف، شرف تحقيق المخطوطات؟