المقامة البرلمانية
حدث الهرنان قال: في الفاتح والعشرين من دجنبر سنة الفين وواحد وعشرين نظم المشرفون على نظام الباكالوريوس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بوجدة وعلى رأسهم الدكتور وسام شهير، رحلة علمية الى مدينة الرباط لطلاب شعبة الدراسات الإفريقية من أجل حضور دورة تكوينة بالبرلمان قصد تنمية المهارات، وانفتاح الطلاب على شتى المجالات، حتى يصبحوا مؤهلين وقادرين على الاندماج في سوق الشغل، ومسايرة الزحف الحضاري، والتقدم العلمي، بمختلف أشكاله، وتنوع أطواره، وتطلعت إلى أن اساير هذه الرحلة بالقلم، حتى يبقى المشهد مؤرخا في العقول، ومنقوشا في النقول، وقد صاحبنا وفد رصين، وثلاثي مكين، هشام، وجمال و وسام، وسام النجاح، وفأل الفلاح، وطاقم تقني أرخ اللحظات، وحفظ الذكريات.
كانت الساعة تشير الى الثامنة وبضع دقائق، عندما اجتمع شملنا، والتحق آخرنا، الى مقر كلية الآداب فتحلقنا لأخذ صورة تذكارية تؤرخ الحدث، وعلى إثرها حملنا الأمتعة، واستقلنا الحافلة، وشددنا الأحزمة، وانطلقنا على بركة الله رابطين الجأش صوب مدينة الرباط.
ونحن في الطريق عشنا أوقاتا مرحة مع الزملاء، والأساتذة الأجلاء، الذين زينوا المكان ولطفوا الأجواء، كانت لحظات جميلة زهية، يكسوها طابع المناقشة والملاحة، وتزكوا من ثناياها رائحة العلم والمعرفة، وفي بعض الأحيان يأخذ الحديث منعطف المزاح والطرافة، وتارة يعم الحافلة الهدوء والسكينة، فلا تسمع الا هدير المحرك يزمجر وتصاحبه همسات تنبعث من الراديو نغمات وألحان، وكلمات يتغنى بها في بعض الأحيان، ونحن على تلك الشاكلة، الى ان انعطف بنا سائق الحافلة، يسارا من طريق السيار في اتجاه واد امليل لتناول وجبة الغذاء.
كانت الساعة الحادية عشر والنصف عندما توقفنا للمرة الأولى بسوق واد امليل، فدعينا من طرف الأساتذة الأجلاء، لتناول وجبة الغذاء، بالغياثة والشواء، فاستفزتنا حمة القرم، وعطفتنا عاطفة اللقم، ثم اتينا شواء، يتقاطر شواؤه عرقا، وتتسايل جوذباته مرقا، فتقدم المنسق على بدار، الى الجزار، وقال له: افرز للشباب من هذا الشواء، وقدم لهم من تلك الأطباق، وليكن الشواء آني العمر، حديث النشر، كثير الذهن، احمر اللون، يذوب كالصمغ، قبل المضغ، ليأكله الشباب هنيئا، فقعدنا وسمينا الله وحسرنا عن ساعد النهم، وأسرعنا في ابتلاع اللقم، حتى هلقمنا النوعين، وغادرناهما اثرا بعد عين، قال له: قدم لهما برادا من الشاي فهو أجرى في الحلوق، وأمضى في العروق، وعند الانتهاء، حمدنا الله وشكرنا اصحاب السخاء، وعدنا من جديد الى الحافلة، لإكمال المسيرة، بنفوس مسرورة، وبطون مملوءة، وخواطر مجبورة، بما نلناه من أكل شهي، وكرم سخي.
فغلبت حلاوة الشواء على العقول، وغدا الجميع في ذهول، وانبعثت من القوم، رائحة اللحم، فأسرعنا لفتح النوافذ، واستنشاق الهواء البارد، ورحنا نلهو ونضحك، ونستغل اللحظات، في استماع النغمات، من شتى الإيقعات، ورددنا الأمداح والقراءات، الى أن وصلنا بعيد العصر الى مدينة الرباط، عاصمة البلاد، والتاريخ والأمجاد، ومأوى الحضارة، والحكم والوزارة، ومنبع العلم والثقافة، فنزل الجميع من الحافلة مستبشرين، وبحمد الله مهللين، فحملنا حقائبنا ورحنا نبحث عن الإقامة، لأداء الصلاة، وأخذ قسط من الراحة، فتم ما قصدناه، وتحقق ما رمناه، عندما حططنا الرحال بالإقامة، مؤسسة التعليم للأعمال الاجتماعية.
وبعد ان خفت وطأة التعب، وزالت وعثة السفر، خرجنا لاستكشاف المدينة، وانتشرنا بين الدروب والأزقة، فولجنا المنتزهات، وزرنا المكتبات، كمكتبة كليلة ودمنة، ومكتبة الألفية الثالثة، واشترينا بضع كتيبات، وأخذنا صورا للذكريات، ومما لفت انتبهانا، وأثار إعجابنا، باعة الكتب المنتشرين هنا وهناك على أرصفة الشوارع العامة، الذين أضفوا على المكان طابع العلم والمعرفة، اللذين كانا منشأ الحضارة، ومبدأ التقدم والرياسة، في عقود خلت وأزمان مضت، لم يبق منها الا هذا والشوارع التي حملت على جدرانها أسماء لعظماء مروا بها تاركين بصمتهم، ومجدهم، مما يشهد على عراقة المدينة وقدسيتها. والى جانب هذا فقد جمعت مدينة الرباط بين مزيج من حضارتين حضارة العراقة والعتاقة، وحضارة التجدد والحداثة، حيث شيدت بها بنايات عظيمة حديثة تضاهي الدول المتقدمة، وحافظت على قصورها الفخمة، وأسوارها الضخمة، الضاربة في القدم، والشاهدة على إرث الأجداد والأمم.
وبعد عودتنا دعينا الى مأدبة العشاء لتناول الوجبة، بفضاء الإقامة، فجاء النادل وقدم للشباب الكرام، قوائم الطعام، ليختاروا ويتخيروا، فاضطربوا في أمرهم وحاروا، فراحوا يقلبون الصفحات، ويطلبون العون والاستشارات، حتى اسقرت الأذواق، على ما لذ وطاب من الأطباق، من مأكولات فتية، ووصفات شهية، ومشروبات حلوة الطعم، سائغة الهضم، فملائنا البطن والمعدة، وأكلنا حتى التخمة، فظهرت على الوجوه ملامح البشارة، وارتسمت على الجميع امارات المسرة، حتى قلت حبذا لو كان هذا كل شهر، يجود به علينا السادات في كل قطر.
وعلى اثر ذلك ذهبنا للهجوع والاسترخاء، فنمنا ولا نامت أعين الجبناء،
و استيقظنا باكرا فجر اليوم الثاني لأداء صلاة الفجر، لإحراز المغفرة ونيل الأجر، وبعد ذلك بقليل شرعنا في الاستعداد، لليوم الموعود، فأخرج كل منا من زيه ما انساق، ومن ملابسه ما راق.
فبدا الجميع في حلل قشيبة، ومناظر بهية، ووجوه مبشورة، وشعور مرجولة، وروائح زكية.
فخرجنا محتشدين لتناول فطور رباطي، في صباح شتوي، فنلنا كرم الضيافة، بأكل شهي، في مكان زهي.
وعلى اثره انطلقا نسير في جو مطير، وإحساس مثير، قل نظيره، وافتقدنا مذ زمن مثيله، فأصابنا رذاذ المطر، وأنعشتنا حبيبات القطر، فبلل القطر بردتنا، وسرع الغيث مشيتنا، حتى اتينا باب البرلمان، فاستقبلنا رجال الأمن، يستفهمون عن مطلبنا، وينظرون في هويتنا، فانتظرنا في قاعة الانتظار هنية، حتى أذن لنا فتقدمنا ثلاثة ثلاثة، فولجنا البناية، وقدمنا الشكر والتحية، فاستقبلنا وفد فتي، في صرح بهي، بزي رسمي،
وصاحبونا الى إحدى الغرف بمجلس النواب لحضور الندوة، ونيل المعرفة، وجاء المؤطرون فألقوا التحية بوجه بش، وكلام هش،
فتقدم مدير مديرية التشريع فافتتح الكلام بالسلام، وتحية الإسلام، فولانا جميلا، وأوليناه جزيلا، وطلب من الجميع أن يعرفوا بأنفسهم، ويبينوا عن ميولاتهم، ففعلوا وأفصحوا عن كفائتهم، وأبانوا عن طموحاتهم، فاستحسن ردهم، وجدد الترحاب بهم، وشرع يتحدث عن تاريخ المجلس وأعماله بحديث مستفيض، وكلام مفيد، لخص فيه عمل مجلس النواب منذ التأسيس والنشأة، الى حدود الساعة، فتلاه رئيس قسم مديرة العلاقات الخارجية، فجلى دور المديرية، وأصناف الديبلوماسية، بأشكالها المتنوعة، وأنماطها المختلفة، وفتحوا المجال للنقاش والمساءلة، وتقدم الطلاب بالمداخلة، والسادات يجيبون عن إشكالاتهم، ويردون عن تساءلاتهم، حتى داهمنا ضيق الوقت، فسارعوا لاختتام الجلسة، وأسرعنا لاقتناص الفرصة، وتأريخ اللحظة، ونيل الصورة، بجانب السيدات والسادات، اصحاب الفخامة، وأرباب الرياسة، وانبرى الطلاب ينسجون خيوط العلاقات والتآلف، ويطلبون ارقام الهواتف، لإتمام التعارف، وتطلعت النفوس الى استكشاف المكان، ورؤية قبة البرلمان، فجلنا في المبنى جولات، وحمنا في المرافق حومات، حتى أدتنا خاتمة المطاف، وهدتنا فاتحة الألطاف، إلى باب القبة فدلفناها، ولمحنا شكلها وهيئتها، فاندهشنا من حسن المساق، وعجيب النسق، حيث التصقت بالجدران ألواح منحوتة، وعلى الأرضية زرابي مبثوثة، وكراسي مصفوفة، وعن غير أصحابها ممنوعة، وجدران منقوشة، توحي بفن المغرب العريق، ونمطه العتيق،
فاندهش الحشد من ذلك المنظر البديع، والمشهد الرائع، فأخذوا صورا من كل زاوية، وركزوها من كل ناحية، حتى لبوا رغبتهم، وأشبعوا نزوتهم، وأزالوا وحشتهم، فاستمعوا لحديث الموجه عن كيفية تسيير الجلسات، وسير المناقشات، وأعمال الرياسة، بحديث متين، وكلام رصين، يبين عن خبرة ضليعة، ومعرفة مكينة، بذاك الصرح الزاهر، والرمز الفاخر،
الذي تدرس فيه مشاكل الأمة، وتصاغ فيه قوانين العامة والخاصة،
وبهذا تمت الزيارة، وحصلت الإفادة، فتأهبنا للوداع، وانعطفنا للرجوع،
وعدنا أدراجنا للإقامة لاصطحاب الأمتعة، واستقلال الحافلة، وانطلقنا نشيطين، إلى وجدة سائرين، إلى أن حدانا القرم وسورته، والسغب وفورته، وأسرتنا الشهوة بأشطانها، وأسلمتنا اللقمة إلى سلطانها، وملنا إلى البحرواي، لأكل طعام شهي، فأتيناه وجلسنا على خوان قد ملئت حياضه، ونورت رياضه، واصطفت جيفانه، واختلفت ألوانه، فأكثرنا الازدراد، ونلنا المراد، ووقف خلفنا رجل شرود، بيده عود، يدندن به على إيقاع غنج، بلحن هزج، وصوت شج، من صدر حرج، ولسان حاله يقول:
ياقوم قد عيل لفقري صبري/// وانكشفت عني ذيول الستر
ياقوم هل بينكم من حر /// يعينني على صروف الدهر
فأدخل المنسق يده في جيبه وناوله ما تاح، ثم دعا وودعنا فراح، وقمنا إلى الطريق ننتهب مسافته، ونستأصل شأفته، في ليلة حالكة الجلباب، هامية الرباب، قد أغدف جنح ظلامها، وسبح الرعد في غمامها، حتى عم الهدوء في المركب، وظهرت على الوجوه ملامح التعب، ونظرت في القوم، فوجدتهم يستسلمون للنوم، فقمت وألقيت كلمة على مسامعهم، فسرت حميا المسرة فيهم، وطارت السنة عن مآقيهم، ورفضوا الدعة التي كانوا نووها وثابوا إلى نشر الفكاهة بعدما طووها، واستعنا بذلك على طي المسافة، وطرد الجهد والمشقة، حتى غدا كل شيء في رمس، وحللنا وجدة بعد ساعات خمس، وحمدت الله أن حباني رفقة ، امتازوا صفوة صافية، يتعاطون كأس المنافثة، ويقتدحون زناد المباحثة، فسعدت بالرحلة معهم، واستزدت من نبل طباعهم، وشكر الله لأصحاب المبادرة، ومنشئ الفكرة، جعل الله للخير إليهم ذليلا، ولا جعل للشر إليهم سبيلا.
مقامة جميلة وفقك الله
سي عزيز الطالب المجد المجتهد زادك الله رفعة ومقاما الله يوفقك
مقال جميل. سلمت أناملك
ما شاء جميل جدا جدا فقك الله استاذ.