زجاج النافذة المطلة على الشارع عندي جد متسخ، لقد قررت ألا أمسحه إلا بعد مرور ثلاثة أشهر، أصلا لا يوجد شيئ يدعوني لمسحه في الوقت الحالي، خصوصا مع قدوم الشتاء، فأنا لست شاعرا أو كاتبا لأعد فنجان قهوة مر المذاق ثم أغتنس إيزارا فأطل من النافذة لأتفرج على تلك المناظر الحزينة، تلك الوجوه البائسة التي تقي وجوهها وأطرافها من ريح الشتاء القار وزخّات المطر العبثية الطائشة، أنا لا يعحبني ذلك..
لا تعجبني رؤية وجوه الأمهات العبوسة وهن يوصلن أطفالهن للمدرسة صباحا أو يرجعن بهم مساءً، ممسكات بتلك المظلات الملونة خوفا عليهم من نزلات البرد التي تصير شبه عشوائية نظرا لكل تلك الحماية التي يحففنهم بها، لا يعجبني أن أطل على الكادحين والبؤساء وهم يخرجون باكرا أو يرجعون متأخرين من أعمالهم الشاقة مضيّعين أجمل أيام عمرهم عند الفلاحين هناك في ضيعات البرتقال الشاسعة والمخيفة والبعيدة، لا يعحبني منظر الموظفين الذين يضعون النظارات ويلبسون (الطرواكارات) ويعتمرون قبعات مسطحة وهم يحملون مظلات سوداء ويرتشفون من سجائرهم الرديئة كجواسيس السبعينيات، لا تعجبني رؤية السيارات المهترئة التي تمر من شارعنا بمحركاتها المسنة الكثيرة الدخان، لا يعحبني منظر الشجرتين قبالتي وهما يقاومان الريح الشتوي في حركات تشبه حركة دجاجة تهشّ على ثعبان اقترب من فراخها..
أنا لن أمسح زجاج نافذتي ولن أقترب من تلك النافذة طيلة هذا الفصل البئيس، فأنا لدي من الشتاء في قلبي ما يكفي ولدي من الحزن ما يكفي، لدي من المناظر الحزينة في قلبي ما يحتاج إلى الإطلالة من النافذة عليه شاعر أو كاتب، لدي في هذه المضغة التي أحمل في صدري ما يشحن العالم حزنا إلى أن تقوم الساعة، لدي من الحزن ما يخرص كل صوت شادٍ، ما يخرص كل طائر مغرد ويذبل كل زهرة متفتّحة في البراري.
أنا لن أمسح زجاج تلك النافذة فأنا لا أريد أن يراني أحدهم من خلالها فيقرأ ما في قلبي من خلال نظراتي فأزيده حزنا على حزن الفصل، أنا لن أمسح زجاج نافذتي ولن أقترب منها حتى لا يختلط حزنان في مكان واحد، فحزني بحر وحزن فصل الشتاء بحر، وأنا لن أمرجهما وسأجعل تلك النافذة هي البرزخ بينهما حتى لا يبغيان.