إن الساحة العلمية والثقافية والاجتماعية المغربية والعربية النسائية بالخصوص، فقدت واحدة من أبرز نسائها برحيل العالمة الجليلة الحاجة فاطنة دعنون أستاذة أجيال، طيب الله ثراها.
هذه المرأة شكلت على عقود من الزمان أحد المرجعيات المهمة في التفكير في قضايا نسائية واجتماعية معاصرة من قبيل موضوعات النهضة بالمرأة وتعليمها والحفاظ على كرامتها إلى جانب شقيقها الرجل في ظل مقاصد الشريعة الإسلامية التي أنصفت المرأة وانتشلتها من براثن الجاهليات المتعددة المشارب القديمة والحديثة. مثلما شكلت ركنا من أركان المدرسة النسائية المغربية التي تبلورت في مرحلة ما بعد الاستقلال. وواكبت طموحات المغرب والوطن العربي في الحرية والكرامة والاستقلال بأبعاده المختلفة خاصة في المجال النسائي الذي شكل مجال اهتمامها.
إن برحيل الحاجة فاطمة دعنون – وهو الاسم الذي تشتهر به – يكون المجتمع قد خسرأحد داعمي الحركة النسائية الملتزمة بثوابت الأمة ومقدساتها الدينية والوطنية مثلما خسرت واحدة من أركان المدرسة النسائية المغربية المدافعة بشراسة على حقوق المرأة الحقيقية لا المزيفة، هذه المدرسة التي تتشكل بأصوات نسائية في الريف الشرقي معبأة كاملة التعبئة للنهوض بهذه الرسالة التي تحفظ للمرأة دورها في المجتمع؛ هذا الدور الذي تؤديه وفق طبيعة خلقتها التي تبينها آيات القرآن الكريم من مثل قوله سبحانه:” يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء..”وقوله سبحانه:” ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة..”
وبرحيلها تفقد الناظورثاني امرأة كان لهما طنين ورنين ودور في كشف الضوء عن المرأة الريفية المغربية الناظورية منذ بداية الاستقلال؛ تلك البداية التي كانت لاتزال الأسرة في هذه المنطقة تضرب ستارا من حديد على المرأة، فلا يسمح لها بالظهور الا بمقدار دقيق ومحسوب.
المرأة في هذا المجتمع الذي كان محصورا بين بحيرة مارتشيكا والسكة الحديدية والأرض السبخة لبوعرك وجبل بوبلاو، المرأة في هذا المجتمع في أواخر الخمسينيات وإلى حدود أوائل السبعينيات من القرن الماضي لم يكن لها هذا الحظ التنويري الذي تتمتع به اليوم؛ كان لا يسمح للفتاة في التعلم الا في حدود التعليم الابتدائي الذي كانت تمارسه بمدرسة خاصة بالفتيات. وأما ولوجها سلك الثانوي فكان يحجر عليها فيه وتمنع منه تجنبا للاختلاط ولعدم وجود ثانويات نسائية خاصة. وهذا العرف هو السائد آنئذ عند أغلب الأسر التي كانت تسكن الناظور، أسر هي عبارة عن بيوتات معدودة تتراءى اسماؤها وصور شخصياتها ومكوناتها وتستطيع أن تميزها وتتعرف على أفرادها دون عناء حينما تتفرسها ولوعن بعد. وذلك بسبب المجال الجغرافي المحدود جدا لهذه المدينة والتي كانت نسماتهالا تتعدى بعض المئات.
ونتذكر جيدا ويتذكر من هم منجيلنا أن المرأة كانت لا تتحرك في فسحة قصيرة داخل الأسوار أو خارجها لزيارة الأحباب وصلة الرحم، إلا في غسق الليل وتحت جنح الظلام، وتحت حجب سميكة من الحواجز والستائر حتى لا ترى ولا يعرف شيء عن حالها.فاذاركبت في سيارة يضرب على نوافذ السيارة وزجاجها بسجف غليظة يحجبها عن الرؤية.
في هذه الظروف الصعبة تبرز امرأتان تذودان تقتحمان مجال التربية والتعليم. الذي كان ذكوريا محضا؛ فلم تكن الأولى إلا السيدة الفاضلة قيدومة نساء التعليم بالناظور: للافاطنةالأنجري، وهي الحاملة لكتاب الله تعالى، الحافظة لشريعة الله، والعالمة بحدودها، المربية الأولى لجيل النساء الناظوريات، كان لها قصب السبق في تعليم فتياتنا وأخواتنا وبناتنا.كانت تذهبلأداء مهمتها في مدرسة الفتيات تجوب الشارع بهيئتها وهندامها الريفي الأصيل؛ جلباب فضفاض يغطي من الرأس إلى أخمص القدم وبلثامها الذي يشمل من أرنبة الأنف الى جيوب الصدر. إنها أول امرأة تلج المدرسة العصرية الخاصة بالفتيات لتعليم القرآن الكريم الذي حفظته في بيت والدها الفقيد الفقيه الأنجري؛ هذا الرجل الذي يتأصل من بلاد فحص أنجرة بأجبالة كانت له مهام يمارسها بمدينة مليلية السليبة منها: خطة العدالة ثم إدارة أمانة الجمارك.فهو فقيه متمكن، عدل حيسوبي، ولذلك أؤتمن على هذه الوظائف الحساسة. بمليلية ثم بحدود بني أنصار. وليعلم أولاده فقد خصص في داره بيتااستقدم له الفقيه المسمى سيدي العسراوي الذي على يديه حفظت للافطنة القرآن الكريم. ونود أن نسترسل في بعض مراحل هذا التاريخ من هذا الزمان الجميل جدا لنعرف بهذا الرجل المعلم المربي؛ فهو المعروف بالعسراوي من رعيل فقهاء أجبالة الأوائل الذين نزحوا الى الناظور لتعليم القرآن الكريم أول مرة ببيت الفقيه الأنجري وحلا له الجو، واستوطن الناظور وأقام بهذه المدينة وبها تزوج وأنجب وكون عائلة لايزال أفرادها موجودين بيننا. إنه شيخ للافطنة التي تفتخر نساء الناظور بأخلاقها وتربيتها وعلمها وفقهها، فقد أدت رسالتها بكل صدق وإخلاص.
فعلى يدي هذه المرأة الأولى ظهرت صحوة المرأة الناظورية. وإذا كان من فضل بعد فضل الله تعالى، فهو لهذه السيدة الفاضلة التي كانت تعلم وتربي بحالها قبل مقالها، فلم تتنازل يوما عن شخصيتها وهندامها، فتحدت كل الصعوبات وتمكنت من أداء رسالتها كاملة متخطية ذلك العرف السائد.
وثاني امرأة تمهد لهذه الصحوة هي السيدة فاطنة دعنون التي تتلمذت في مراحلها الأولى على يد للافطنة الأنجري، ولها الشرف أن تكون معلمتها وفي مدرستها الأولى بالناظور قبل أن ترحل الى تطوان لإتمام دراستها الثانوية.
بدأت الراحلة دعنون -رحمها الله تعالى- حياتها المدنية ناشطة في المجال الطلابي بتطوان قبل تخرجها معلمة للفتيات برفقة معلمتها الأولى للافطنة الأنجري، لتلتحق بعدها مديرة فمفتشة حاملة معها دائما هموم النهضة بالمرأة وخدمتها وفك العزلة عنها، خاصة في بداية الاستقلال بعد رحيل المستعمرالإسباني عن شمال البلاد.بحيث ساهمت في تعليم وتربية أجيال من الفتيات والنساء من خلال المقررات الدراسية ومن خلال الوعظ والإرشاد والتوجيه الرصين ضمن برامج جمعية الاتحاد النسائي وفي عمق بيوتات الأسرالتي كانت تغشاها وتتواصل معها وتزورها بحكم الصداقة والجوار أو المصاهرة أو الولائم والمآتم. إذ كانت – رحمها الله تعالى- تعتبر قضية المرأة من تعليم وتربية وتثقيف شرطا في النهضة العامة للبلاد.
وبعد فترة معتبرة قضتها الراحلة في هذا المجال تتفرغ الى خدمة قضايا النساء من خلال انخراطها في العمل النسائي الحقيقي تحت اشراف الاتحاد النسائي المغربي فأرشدت ووجهت وأسست وحاضرت وناقشت واقترحت وأنفقت من مالها داخل الوطن في مختلف المدن والحواضر والبوادي وخارج الوطن في الدول العربية والأوربية والافريقية والأسيوية تنافح عن قضايا الأمة ومقدساتها بصوت نسائي دون توان ولا سأم ولاملل.
وقد كان شرفها كبيرا أن تقترح عضوا للمجلس العلمي بالناظور في أول دفعة عندما أعطى أمير المومنين جلالة الملك محمد السادس رئيس المجلس العلمي الأعلى تعليماته لتطعيم المجالس العلمية بالعنصر النسوي كعالمات يؤدين رسالة العلم إلى جانب إخوانهن العلماء، فنصبت عضوا في تشكيلة المجلس عام 2004م،وحملت هذه الأمانة وأدتها عن جدارة واستحقاق.
وإضافة إلى مساهمتها في الأخذ بيد المرأة الريفية الناظورية وإخراجها من قمقم الحجر والانغلاق وتحريرها من ربقة الجهل والأمية قدمت – رحمها الله تعالى ـــ إضافات مفيدة عمقت النقاش في قضايا ومفاهيم نسائية وعلمية وتربوية وجمعوية خاصة في العمل التطوعي الذي أحبته وانكبت عليه بمجامع قلبها وبرزت فيه رائدة، وبه ختمت مسيرتها في هذه الحياة الدنيا الفانية.
وانشغال الحاجة فاطنة دعنون بهموم المرأة وبالبحث في العمل الجمعوي التطوعي لم يمنعها من أن تكون فاعلة ومساهمة في القضايا التي تشغل الرأي العام كالوحدة الترابية للمملكة ومدونة الأسرة ونشر ثقافة القيم والأخلاق التي تفقدها الساحة اليوم وتفقدها المدرسة والجامعة والأسرة المسلمة ولذلك استطاعت أن تنقل كل هذا الى داخل البيوت والمساجد من خلال الوعظ والإرشاد والتعليم ومحو الأمية والتربية غير النظاميةوالمندمجة بفضل تحركاتها وبرامجها التي كانت تقوم بها وتسطرها ضمن أنشطة المجلس العلمي وجمعية دار الأم التي تولت إدارتها والإشراف على تسييرها الى حين وفاتها.
إنها المرأة الحديدية التي أغنت الحقل النسائي الناظوري بشخصيتها القوية والفريدة وبأخلاقها وشمائلها؛ مثلما كانت وجها حاضرا في أنشطة توعوية تطوعية محضة خدمة للأرملة واليتيم والمحتاج والمسكين.
كان آخر ظهورلها وهي تنهضبهذه المهام بالرباط من داخل تلك الندوة التي نظمها الاتحاد الوطني لنساء المغرب الذي كانت مشغولة بهم تسيير دواليبه منذ التأسيس وإلى وفاتها.
وبعد؛
إن المجلس العلمي المحلي بإقليم الناظوروهو يترحم بهذا التأبين على الفقيدة ليضيف صوته إلى كل المعزين والمؤبنين ليؤكد أن الراحلة الكبيرة تميزت في الساحة النسائية الوطنية والعربية والإسلامية بتركيز اهتمامها على موضوع مشاركة ومساهمة المرأة منقبة عن شروطها، باحثةعن عوائقها وفي أسباب تحقيقها لذاتها ونهضتها في الخريطة الوطنية بالخصوص، حاملة لواء التنوير والعقلنة، كل ذلك بأسلوب هادئ وعميق يتجاوز منطق الجدال العقيم ومآزقه المتشعبة.
امرأة حديدية صلبة تجاوزت كل المواقف الصعبة في إبانها معتمدة –بعد الله تعالى على عصاميتها وثقافتها وتكوينها الديني الرصين وعلى زوجها الداعم والعضد والسند الحاج محمد البوريمي رحمه الله تعالى وعلى صويحبات لهن نفس القناعة، وعلى الإيمان العميق بالتشبث بثوابت الأمة ومقدساتها وعلى رأسها الإسلام وإمارة المؤمنين. امرأة فريدة أقبل عليها الناس لجديتها وصدق معدنها ولحبها للعمل وبعدها عن لغة الخشب التي لاتجدي الا قيلا وقالا.ولعطفها ورهافة حسها ورحمتها بالملهوفين، وهوالالتزام الذي ميز سلوكها رحمها الله حتى في تجربتها السياسية التي خاضتها في إحدى مراحل حياتها عندما انتخبت عضوا بالمجلس البلدي بالناظور ملتزمة بالقيم التي سيجت بها اهتماماتها الخيرية والمعرفية ومبتعدة عن منطق الحركة من أجل الحركة الذي يجعل صاحبها حاضرا في المشهد بدون إضافة شيء جديد.
أخيرا؛ الحاجة فاطنة دعنون هرم نسائي من أهراماتنا تتخطفها يد المنون ليلة الأربعاء 17 ذي الحجة 1442هـ الموافق لـ28 يوليوز2021م، تاركة وراءها ذكرا خالدا في الذاكرة الجمعية للمنطقة وللوطن، إنها أيقونة العمل النسائي وأيقونة العمل الجمعوي التطوعي والديني كما عبرت بعض الأقلام مشكورة مأجورة؛ إنها التي فككت العديد من القضايا التي شغلت وأرقت المرأة الناظورية الريفية. رحمها الله وأسكنها فسيح الجنان.