كتبه الدكتــور محمادي لغــزاوي
حياكم الله
،
الزمان: زوال يوم الأحد من أيام فصل الشتاء في بداية ثمانينيات القرن الماضي.
المكان: الملعب البلدي بمدينة زايـو و التلة المطلة عليه.
أود بداية ان أنوه أنه ما أنا بصدد كتابتة ليس بوثيقة تاريخية بل هو استحضار لومضات من الماضي البعيد. و الفرق بين الاثنتين هو أن الأولى تعتمد على مصادر و مستندات دقيقة و أسماء و أعلام و أماكن بعينها، في حين أن الثانية هي لحظه استرجاع لمعلومات من الزمن الغابر الجميل و ما خزنته الذاكرة من شظايا و أجزاء قد تفتقر إلى الدقة بفعل عامل الزمن. بالتالي قد يرِد هنا وهناك ما قد يبدو تضاربا في المعلومات او غياب التناسق بين مكونات هذا النص. كما أنني قد أذكر شخوصا أو أسرد أحداثا قد لا تعود إلى لحظة واحدة من الزمن. في كل الأحوال، إن صدر مني صواب فهو من توفيق الله تعالى و إن أخطأت فهو من نفسي و الشيطان!
كان يوما مشمسا يمزج بين دفء أشعة الشمس الشتوية وصخب الجماهير التي تملأ جنبات الملعب و الأزقة المجاورة. كانت مدينة زايو على موعد مع مباراة الاتحاد المحلي ضد إحدى الفرق التي كانت تنافس في القسم الثالث لكرة القدم، و لعله فريق من مدينة الحسيمة. بمبادرة من أحد أصدقاء الطفولة ارتاينا يومها الا نقتني تذكرة الدخول بل نوفر المبلغ و نتخذ من التلة المطلة على الملعب مكانا لمتابعة أطوار المقابلة بالمجان. استحسنّا الفكرة و اقتنينا “الزرّيعة” بدريهمات التذكرة كي تكتمل الفرحة.
تجدر الإشارة أن مقابلات اتحاد زايو في نهاية الأسبوع كانت تسبقها طقوس جميلة. من هذه الطقوس أذكر عملية الإعلان التي كان يتكلف بها الراحل أحمد المخفاوي رحمه الله تعالى. في اليوم الذي يسبق المباراة كان رحمه الله يركب سيارة رونو 4 بيضاء و مستعينا بمكبر صوت مثبت على سقف السيارة. إلى جانب السائق يطوف أحياء و أزقة المدينة مناديا ساكنة زايو بلغة عربية بليغة وصوت صادع مميز: “أيها الجمهور الرياضي الكريم، موعدكم غدا مع المباراة التي ستجمع بين فريق اتحاد زايو ضد ….”. لم تكن وسائل التواصل متوفرة مثل ما هي الان لكن ذلك لم يكن يثني الناس عن صناعة الفرجة ولو بإمكانات محدودة و بسيطة.
فوق تلك التلة حيث تقف المعلمة التاريخية، برج الحمام، شامخة بجنب أشجار الصنوبر المعمرة، تسمرنا واقفين ننتظر إعلان حكم المباراة عن بدء النزال. كانت كتيبة زايو قد انتهت بعملية الإحماء و دخل اللاعبون بعدها على رقعة الملعب. لم أعد أذكر كل الأسماء بالتفصيل بقدر ما علقت في ذهني لقطات متقطعة من المباراة. في بذلة برتقالية تشبه لون منتخب الطواحين الهولندي انتشر لاعبوا الاتحاد على مختلف المراكز و انطلقت صفارة الحكم معلنة بدء المواجهة. الحارس هو كان الوجه المعهود ميمون عزاوي المعروف في الأوساط الرياضية المحلية ب “الراينا”. اشتهر بارتماءاته البهلوانية و دفاعه المستميت عن شباك الفريق. كما أذكر المدافع الصلب أحمد بلبكاي (أحمد ولد صدّيق).
بجواره كان أيضًا المدافع محمد لحميدي ذو القامة الطويلة. جل الهجمات كانت تمر بمحور الوسط يخطها اللاعب المتميز عبد الحق زمزم و الذي كان يشتغل في نفس الوقت أستاذا للتربية البدنية بزايو. كان يلقب بمارادونا لجمعه بين بعد النظر في وسط الملعب و تمريراته و مهاراته الفردية في مركز رقم 10. فقد كان كلما تلقى الكرة “يبهدل و يدوّخ” اللاعب الخصم بمراوغاته الرائعة و بذلك يحرك الجماهير. ربع ساعة انقضت من عمر شوط المقابلة الأول و النتيجة لا زالت متعادلة سلبا، غير أن الكرة كانت تتمركز غالبا في جهة الخصم. مرمى الفريق الخصم كان في الجهة الأخرى من الملعب وهي الجهة المحاذية للمكتب الجهوي للاستثمار الفلاحي “ترافوبليك”.
فجأة و من حيث لا ندري باغتنا أفراد من القواة المساعدة مدججين بسياط غليظة و بأوجه مكفهرة. رجال غلاظ شداد لا ينبسون ببنت شفة، يلوحون بالسياط يمينا و شمالا و يسوقون أمواج بشرية من الأشقياء مثلي نحو أسفل التلة لصدهم عن مشاهدة المباراة بالمجان. بديهي أننا كنا ندرك و نتفهم دوافع منعنا هذا غير أنه في قرارة أنفسنا كنا نشتم هؤلاء “المردة” أو “بوفتيلة”، كما كانوا يُنعتون من طرف العوام وقتئذ، لأنهم أفسدوا علينا الفرجة و الفرحة. استعمالي لهذا المصطلح، كما كان يرد على ألسن الناس، ليس قدحا بل فقط لتقريب الصورة من القارىء و بكل أمانة. في السياق ذاته أمرر تحية التقدير و الاحترام لهذه الفئة التي كانت تسهر على نظام و أمن المدينة دون كلل أو ملل. في هذه الأثناء و بينما نحن نركض للنجاة من بطش هؤلاء المخازنية تتناهى الى مسامعنا هتافات الجماهير من داخل الملعب كتفاعل مع مستجد في المباراة.
مكثنا نرابط غير بعيد من مدرجاتنا المجانية آملين أن ترحل هذه الفرقة الأمنية عن المكان. و هذا ما تأتى لنا حيث غادرت القوات المساعدة المكان في وقت الاستراحة بين الشوطين. عدنا إلى مكاننا و أخذنا نستدرك ما فاتنا و بفضول نسأل عن النتيجة. علمنا وقتها أن الهتافات التي سمعناها وقت الزحف و “الهربة” قبل قليل كانت ردة فعل تجاه قرار حكم المباراة الجائر بتغاضيه عن ركلة جزاء واضحة على إثر عرقلة اللاعب عبد الرحمان اليبدري أو لمقدمي (بدأت ذاكرتي تخذلني ؟؟!!) والذي كان يلقب ب “كيمبيس” نسبة إلى اللاعب الأرجنتيني ماريو كيمبس، هداف بطولة كأس العالم 1978. على ذكر كيمبس زايو، فقد كان مصدر إزعاج لكل لاعب يلعب ضده. بشعر طويل و قامة قصيرة لكن بلياقة بدنية عالية و بسلاسة كان يستعرض مهارات كروية يبهر بها المتتبعين. من الوجوه التي أذكرها أيضا السّي أحمد البدوي رحمه الله تعالى، لكني لم اعد أذكر بأية صفة كان حاضرا. فلربما كان آنذاك مدربا أو أحد أعضاء الجهاز الفني حسب المصطلح العصري. ببذلته الأنيقة و شعره الأشقر المصفف و هيبته المعهودة كان بين الفينة والأخرى يترك دكة البدلاء و يدنو من خط الشرط لتوجيه اللاعبين. أخذت الجماهير تسترجع أنفاسها بين الشوطين و إذا بالثنائي “الدنيا” و “الآخرة” (رحمهما الله تعالى) يشرع في الطواف في أرجاء الملعب ملهبا حماس الجماهير بحركات فكاهية. شخصيتان ما فتئت تدخل البهجة إلى نفوس الساكنة قد رحلت إلى دار البقاء في صمت. و الغريب أن القلة من كان يعرف أسماءهم الحقيقية و أنا من أولئك.
استؤنف اللعب وزاد ضغط عناصر الاتحاد بحثا عن هدف التقدم. بدأ صبر الجمهور المحلي ينفذ مع توالي قرارات الحكم التي كانت في نظر هذا الجمهور مجحفة. تعالت أصوات التنديد بل صارت الأمواج البشرية تصب جام غضبها على الحكم و تهتف بصوت واحد: “آ لاربيط … أمسخوط الوالدين”. لحسن حظ فريق الاتحاد أنه لم تكن تسري قوانين اللعبة الجزرية مثل ما هو عليه حال كرة القدم اليوم، وإلا فكان سينال حظه من العقوبات القاسية. مع توالي الضغط و الهجمات من قبل فريق الاتحاد في الدقائق الأخيرة من عمر المقابلة، جاءت لقطة هيمنت على المقابلة كلها. بعد أن تسلل أحد اللاعبين (مجيد شاطر أو حسن بوبوح، لم أعد أذكر بالضبط!) على الجانب الأيمن و قذف بالكرة إلى مربع العمليات. آنذاك حاول أحد اللاعبين و لعله عبد القادر الزياني (أتمنى ألا تخونني ذاكرتي!) حاول أن يستقبل الكرة بضربة مقص غير أنه وقع على الأرض بشكل خاطئ تسبب في إصابته. لقطة حبست أنفاس الجماهير وهي تتابع المشهد في صمت مريب. بخطى متسارعة دنى حكم المباراة باللاعب المصاب و لم يتوانى في فحصه و إسعافه.
بلطف الله و بإسعاف الحكم وقف اللاعب المصاب و استأنف اللعب. عَلِمنا فيما بعد أن حكم المباراة كان يشتغل طبيبا و في وقت فراغه يعزز أطقم التحكيم في عصبة الشرق لكرة القدم. بموقفه ذلك تجاه لاعب الاتحاد المصاب كان الحكم قد كفّر عن كل ما صدر منه من تحيز للفريق الضيف. توالت المحاولات و ضغط الاتحاد بكل ما أوتي أملا أن يحقق النصر. عدم الرضا أصبحت بادية على وجوه اللاعبين. بسرعته الفائقة لم يتوقف حسين الطيبي “حسين السامبل” عن الركض عله يدرك هدف السبق لكنه لم يفلح. حتى اليبدري و بوعرفة و الهبري و مجيد حديقي و مجني و غيرهم لم يتمكنوا من تحقيق هدف الفوز و رسم الفارق. في تلك الأثناء أطلق الحكم صافرة النهاية مسدلا الستار عن لقاء كروي مثير لم يشهد غالبًا أو مغلوبًا. أصبح كل واحد منا خبيرا في الكرة وصار الكل يحلل مجريات المقابلة بصيغته أو يضع اللوم على الحكم أو يندب الحظ العاثر الذي لم يحالف فريقنا و بالتالي نُرغم على اقتسام نقاط المقابلة مع الخصوم.
بخوضي في تفاصيل هذا اليوم قد أكون أقدمت على استفزاز كثير من القراء، و بالخصوص قدماء اللاعبين الذين صنعوا لحظات هذا الزوال التي أنا بصدد وصفها. و ذلك لإنني قد أكون جانبت الصواب هنا أو هناك. هذا ليس قصدي بتاتا. مرة أخرى أود أن أشدد أن هذه ليست رواية تاريخية بقدر ما هو توظيف لبعض الأحداث لصياغة نص أقرب إلى الأدب القصصي منه إلى وثيقة تاريخية. إنه نبش في الذاكرة. كما أن ذكري لأسماء بعينها ليس من باب الإساءة أو التشهير أو التطاول على خصوصياتهم بقدر ما هو اعتزاز بهذه الوجوه الرياضية لمدينة زايو. فهذه الأسماء كانت شخصيات رياضية عامة و بالتالي فذكرها في سياق تقرير أو مقال هو أمر معمول به.
كانت هذه شذرات من ذاك الزوال المشهود من الزمن الغابر من على تلال مدينة زايو الأبية، بأشجارها العالية المتاخمة لبرج الحمام الشاهق. تلال و للأسف الشديد تئن في صمت و تتعرض لتعرية الجغرافيا و التاريخ. كم هو محزن و مؤلم أن نرى ما آل اليه برج الحمام هذا والذي سبق أن كتب عنه موقع زايو سيتي مرات عديدة. و الأشد إيلامًا أن المكان لا زال عرضة للتهميش و التخريب و بشكل ممنهج و الكل يتفرج. كما أن الأشجار المعمرة العملاقة تلك هي في طريقها للاندثار من ذاك المكان. و بكل صدق و دون التواء أهمس للقاريء الكريم أن المسؤولية تقع على عاتق كل واحد منا. “نتا، و نتا و نتا و أنا”، كما قالت ناس الغيوان. فلندَع خطاب إلقاء اللوم على الاخر.
على المرء ان يسائل نفسه ماذا فعل و قدم تجاه الواقع و تغييره؟ فالأمة التي تحفظ تاريخها تحفظ ذاتها، و الأمة التي لا تعتني بتراثها و مكتسباتها ليست لها منزلة بين الأمم.
دمتم و دامت زايــو في رعاية الله و حفظه
مقال راءع تاريخي يوثق لجيل السبعين وجيل الثمانين حين كانت الصداقة والاخوة والبراءة وممارسة الرياضة وبروز لاعبين موهوبين سبقوا التاريخ ( ولو وجدوا في هذا الوقت لتهافتت عليهم كبرى الفرق !! لكن دوممماااج تحية للجميع وكل عام وانتم بالف خير