د.محمد بالدوان
أين توارت دولة الخلافة (داعش) بعدما كانت أخبارها تملأ الآفاق، وبريقها يخطف الابصار؟ اعتبر الظاهرة غير قليل من الباحثين بأنها موجهة وعابرة، وكتبت حينها ما معناه بأنها محاولة لحرف الأمة عن المسار السليم ثم قلت: “آه.. ما أدهاه من تخطيط، ويا لخبث مراميه ! كأنه يخاطب من يصوت للإسلاميين آملا في عدالة اجتماعية: ها أنا أختصر لك المسافات وأطوي لك الزمن، وأقدم لك دولة إسلامية خالصة وخلافة راشدة تفي بالموعود ولا تحدها الحدود!”
لا شك في أن حال الأمة العربية الإسلامية المتسم بالانشطار والضعف سيضفي على تصور الحل في الخلافة الجامعة كثيرا من الجدية والواقعية، لكن ألا يمكن أن نتساءل: هل يَلزم وضع شرط قيام الخلافة الموحدة لتعود الأمة إلى سابق عهدها؟ أيُتصور اندثار مفاهيم الوطن والوطنية في يوم ما؟ ألا يمكن أن يتحول مفهوم الوطن وحَدُّ المواطنة إلى أساس بِناء؟ ألا يمكن أن تصير الخلافة اليوم مدخل هدم يفتحه أعداء الأمة الإسلامية؟
يمكن اعتبار القرن 19م قرن ترسيم عقيدة الوطن بامتياز، إذ لم يشفع “لنابوليون بونابارت” حين غزا أوروبا عازما إنشاء امبراطورية مترامية الاطراف، كونه حاملا مبادئ الثورة الفرنسية، فانتهت توسعاته بالهزيمة في معركة واترلو سنة 1814م، ربما رغب التاريخ بإيقاظه قائلا: انتهى زمن الامبراطوريات وبدأ زمن الوطن.
ثم صدحت حناجر الثوار بذات مبادئ نابليون في كل العواصم الأوروبية ولم تنطفئ جذوتها حتى حققت النصر، حين ابتعدت عن منطق الامبراطورية واقتربت من عقيدة الوطن.
حقق أنصار الفكر القومي والليبرالي في النصف الثاني من القرن 19م نصرا شاقا وعنيفا على حلف الإمبراطوريات المحافظة، الشيء الذي يثير عند المتتبع تساؤلا عن المصادر التي أمدته بالدعم والقوة لتشهد أوروبا بداية ظهور أوطان ذات وحدة قومية وجغرافية وسياسية مستقلة كليا عن ملوك الكنيسة .
لم يكن من قبيل الصدفة عقد مؤتمر “بازل” في أواخر ق19م برئاسة الصهيوني “هرتزل” الذي أعلن واثقا بأن الوطن القومي لليهود تأسس معنويا بعقد مؤتمر “بازل”(1897) وستقوم أركانه المادية بعد 50 سنة.
وفي مطلع القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الأولى(1914-1918)، ازدادت الإمبراطوريات المحافظة، لا سيما العثمانية والنمساوية والألمانية، تفككا بعد انهزامها في الحرب، ثم رَسَّم الرئيس الأمريكي نيكسون( الحزب الجمهوري) في مؤتمر فرساي (1919) مبدأ حق الشعوب في تقرير المصير، ما عزز عقيدة الوطن القومي التي تأسست خلال القرن 19م. وبعد فرض الانتدابين البريطاني والفرنسي على المشرق العربي، عرف الأخير تجزئة رهيبة ليحتضن وطنا جديدا غريبا أعلن عنه الصهاينة بمساعدة بريطانيا سنة 1948.
أضعفت ثورات الوحدة القومية، التي خاضها الأوروبيون خلال ق19م وخسائر الحرب العالمية الأولى، أوروبا سياسيا واقتصاديا وماليا، وسمحت بتركيز عناصر القوة عند من لا كيان له، لكنه يملك مقومات التحكم في الدول والإمبراطوريات وآليات بث هوسٍ فكري يمجد الوطنية والقومية حتى تمنح الكيانات الجديدة شرعية الوجود، وإن كانت لا تملك المقومات التاريخية والجيوسياسية الضرورية لتأسيس الوطن.
إن المتأمل للتاريخ يدرك أن الأمة الاسلامية فقدت توازنها منذ القرن 17م، على الأقل، ومنحنى تطورها الانتاجي اتجه باضطراد إلى الانحدار، وإذ لا يتسع المجال للخوض في أسباب ذلك، أكتفي بالقول أنها واجهت المستجدات بكثير من الجمود والتحجر.
في نفس السياق انخرطت الأمة المسيحية في دورة تجديدية ثورية، قررت خلال القرن 19م، إنهاء هيمنة البابوية والامبراطوريات المحافظة، وسلكت طريقا يُنَظِّر لإنشاء الوطن القومي وبناء الدولة الحديثة حيث يختفي الرعايا، ويُشرك الشعب في الاختيارات السياسية، وتُحفظ مقدرات الوطن، ويُحَكَّم الدستور والقانون، وتُتَوّج السلطة التشريعية المنبثقة عن الشعب أعلى سلطة في الدولة، وإن كان النظام ملكيا.
بخصوص راهن العالم الاسلامي، صار المتابع الحذق لمجريات الأحداث، بخاصة بعد ربيع 2011، يدرك أن معظم المفاهيم والأدوات(منها الوطن) التي وظفتها قوى الشر والحرب والدمار لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، بدأت تتحول إلى أداة قوة بيد قوى الخير والسلام والاستقرار، إذ لم يَجْنِ من يتحرك بمنطق الجماعة والخلافة الإسلامية …لأمته سوى الهزائم والنكبات، أما من تمسك بالوطن ورضي بكل تراكماته السلبية، وآثر مصالحه القومية، ما فتئ يحرز التقدم والانتصارات.
ألا يدعو للدهشة سياق تأسيس دولة الخلافة في العراق وبلاد الشام؟ ! ألم تُعلَن هذه الدولة عشية فوز التيارات الاسلامية الوطنية المعتدلة بالانتخابات عقب حراك الربيع؟ ! لا ريب في أنه تدبير عدائي متعدد الأبعاد، يوظف المخيال والمخزون العاطفي عند المسلمين، ثم يوحي بإمكانية إقامة الخلافة المفقودة على الواقع، لينتهي إلى إعاقة التغيير من طريق القواعد الديمقراطية.
على من يحمل اليوم مشعل التغيير أن يتخلص فورا من خطاب الخلافة، فالسياق التاريخي المعاصر يؤكد في كل جولة أن الخيارات الجذرية والشعارات الكبرى لم تعد سوى تصورات توظفها القوى المعادية في إدارة الصراع، خاصة إذا علمنا أن خالص الدين لا يقدس أي نموذج في الحكم والتدبير السياسي.
أما ما تأسس من تجارب انسانية على مفاهيم الوطن والمواطنة أمسى المدخل السليم للبناء، صحيح قد يوجد من لا يحسن تنزيلها أو يخشى نتائجها أو يحاول تقويضها، غير أنها باتت تشكل أساسا نظريا راشدا، يساهم باحترام حقوق الإنسان ويضمن تداولا سلميا للسلطة.