الدكتـور محمادي لغـزاوي يكتب:
ما بعد الربيع العربي: عشرية الآمال و الآلام
الجزء الأول
توطئة
قبل عشر سنوات، في 17 من ديسمبر 2011، أضرم بائع الخضر و الفواكه الشاب التونسي محمد البوعزيزي النار في نفسه خارج مبنى حكومي في تونس احتجاجًا على مصادرة عربته. كانت هذه الخطوة بمثابة الشرارة الأولى التي أدت إلى موجة من الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد بل و اتسعت المظاهرات إلى باقي الدول العربية. أطاحت الثورات الشعبية بالعديد من الأنظمة الديكتاتورية في تتابع سريع، حيث كانت تهتف الحشود الغاضبة بشعارات التغيير من قبيل “الشعب يريد إسقاط النظام”.
لكن الحماسة الثورية سرعان ما أفسحت المجال للانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والدول المنقسمة المتصدعة. و لقد ساهمت عوامل داخلية و خارجية في إفشال هذه الانتفاضات، من قبيل الأنظمة الاستبدادية وكذا الدول العميقة داخل الوطن العربي بالإضافة إلى الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. فكل من إدارتي أوباما و ترامب قبلتا ضمنيًا بالفوضى التي تلت الانتفاضات الشعبية في الكثير من الدول العربية و حوّلتا اهتمامها إلى أهداف أخرى في المنطقة كالمفاوضات النووية مع إيران أو التوسط لتطبيع العلاقات العربية مع إسرائيل.
قبل عام 2011 ، اعتبر معظم المحللين أن استقرار الأنظمة الاستبدادية العربية أمرًا مفروغًا منه. غير أن الضغط الشعبي أدى إلى إسقاط أربعة أنظمة دكتاتورية حكمت لفترة طويلة في تونس و مصر و ليبيا و اليمن. آنذاك سارع بعض المراقبين إلى الجزم بأن موجة ديمقراطية لا يمكن وقفها قد أذنت؛ وحذر آخرون من أن التحول الديمقراطي سيفتح الباب أمام هيمنة الإسلاميين. في عام 2012، اعتقد كثيرون أن نظام بشار الأسد السوري قد انتهى، و في عام 2013، جادل مؤيدو الانقلاب العسكري في مصر بقيادة السيسي بأنه سيعيد البلاد إلى مسارها نحو الديمقراطية.
غير أن كلاهما كان على خطأ. لقد تغير الكثير في البلدان العربية وتحطم جدار الخوف لدى المواطنين و تم القطع مع الحكم الاستبدادي. غير أنه في غضون سنوات قليلة تحطمت تلك الآمال. فقد أجهزالانقلاب العسكري في مصر بقيادة السيسي على تجربتها الديمقراطية الوليدة. كما أدت التحولات السياسية في ليبيا واليمن إلى حرب أهلية. من جهتها سقطت سوريا في مزيج مرعب من التمرد على النظام و حرب أهلية بالوكالة. في النهاية، استعاد المستبدون في جل أنحاء المنطقة معظم السلطة التي فقدوها. ما صار مؤكدا هو أن هذه الانتفاضات قد أعادت تشكيل السياسة العربية سواء تعلق الأمر بالسياسة الداخلية او العلاقات الدولية.
ماذا حصل إذن ؟
إن قوة و مفاجاة اللحظة الثورية التي بدأت في أواخر العام 2010 شكلت عنصرا باغت كل الأطراف. كان من الواضح أن العالم العربي يعاني من إحباط شعبي متزايد وتفاوت اقتصادي صارخ، غير أن حكام المنطقة اعتقدوا أنهم قادرون على سحق أي تهديد محتمل. وكذلك اعتقد المراقبون الذين كانوا يتابعون الأحداث عن قرب بل حتى الناشطون أنفسهم لم يتصوروا تسارع الأحداث بهذه الوتيرة. لم يكن أحد مستعد للحجم الهائل و سرعة وكثافة الاحتجاجات التي اندلعت في وقت واحد في كل أنحاء العالم العربي. يرجع الفضل في هذا إلى القنوات الفضائية من قبيل قناة الجزيرة و منصات التواصل الاجتماعي مثل فايس بوك و تويتر. كل هذا أسهم في تسريع العملية و نقل الأفكار و الصور التي كانت تعبر عن غليان شعبي تجاوز كل الحدود. هذا كما أن الأنظمة السائدة آنذاك كانت تراهن على اضطرابات معزولة يمكن سحقها بسهولة. يضاف إلى هذا أن بعض الجيوش رفضت التدخل وقمع المتظاهرين وكان هذا إعلانًا ضمنيًا عن الانتصار للشعب و للثورة.
شكلت الانتصارات التي تحققت في ساحة التحرير وسط القاهرة و شارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة، و التي مهدت الطريق للانتخابات، شكلت مصدر الهام للعديد من النشطاء في باقي البلدان و حشدت آلاف المتظاهرين. لكن لم يحذو الكل هذا الطريق. فقد عمت الفوضى في العديد من الأقطار كسوريا و ليبيا و اليمن في حين اعتمدت بعض الحكومات كالمغرب و الجزائر و الأردن على تمرير إصلاحات دستورية متواضعة و محتشمة لامتصاص الحركات الاحتجاجية، في الوقت ذاته سعت هذه الحكومات إلى الانتقام ومعاقبة النشطاء الذين تجرأوا على تحدي الأنظمة السائدة. أما القوى الغربية بزعامة الولايات المتحدة فلم تفعل شيئا يذكر لدعم اختيارات الشعوب العربية. فعندما أطاح الجيش المصري، بقيادة السيسي، بالرئيس المنتخب محمد مرسي وقتل مئات المتظاهرين في ميدان رابعة العدوية وسط القاهرة، رفضت إدارة أوباما حتى وصف الحدث بأنه انقلاب.
بحلول عام 2013، وبسبب انزلاق سوريا في الفوضى وحرب أهلية حصدت مئات الآلاف من القتلى و ملايين اللاجئين و انتشارطائفية جديدة، و كذا الانقلاب العسكري المصري ضد مرسي، ترسخ إجماع جديد لدى كل المتتبعين. لقد انتصر الحكام المستبدون وفشلت الانتفاضات وتحول الربيع العربي إلى خريف أو شتاء عربي.
الجزء الثاني
دور الحركات الإسلامية
مع بدايات الانتفاضات الشعبية تم الترحيب بالإسلاميين باعتبارهم فاعلين مهمين في المنظومة الديمقراطية الجديدة، لكن العديد منهم تعرضوا للقمع في نهاية المطاف من قبل الأنظمة الاستبدادية الناشئة كما حدث في مصر، أو كافحوا من أجل التأقلم مع الديمقراطيات الانتقالية كما هو الحال في تونس أو المغرب. في السنوات التي سبقت عام 2011، كان الإسلاميون المرتبطون بجماعة الإخوان المسلمين هم القوة المعارضة المهيمنة في العديد من الدول العربية بفضل مهاراتهم التنظيمية وقدرتهم على تقديم الخدمات الاجتماعية وسمعتهم بالنزاهة على العموم. كل هذه العوامل جعلتهم قوة سياسية هائلة. لم يلعب الإسلاميون دورًا مهمًا في الأيام الأولى للانتفاضات.
ففي تونس، نجح نظام بنعلي طيلة فترة حكمه إلى حد كبير في إقصاء الجماعات الاسلامية من الحياة العامة وتجفيف منابع الثقافة الاسلامية في البلاد. في مصر، انضم التيار الإسلامي إلى احتجاجات ميدان التحرير في وقت متأخر. لكن عندما أتيحت الفرصة، دخل الإسلاميون بسرعة إلى الساحة السياسية. بالتالي حقق حزب النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر انتصارات هائلة في أول انتخابات انتقالية في هذين البلدين. كما شارك حزب العدالة والتنمية في المغرب في تشكيل حكومتين بعد انتصاراته الانتخابية في 2011 و 2016. وانضم الإسلاميون الليبيون أيضًا إلى المسار الانتخابي و لو أن النجاح أكان أقل بكثير. في سوريا، لعبت جماعة الإخوان المسلمين دورًا تنظيميًا حاسمًا في الانتفاضة ضد الأسد عبر تلقيها الدعم من مناصريها من خارج سوريا.
لكن هذه الحركات الإسلامية سرعان ما أصبحت أهدافًا للحملات القمعية تارة بشكل مباشر وتارة أخرى بالولوج إلى حملات تشويه واتهامها من طرف خصومها بمحاولة الاستيلاء على السلطة. فلقد استخدم الجيش المصري مثل هذه الحجج لإضفاء الشرعية على انقلاب يوليو 2013 والقمع الكاسح والعنيف الذي أعقب ذلك. من جهته تبنى حزب النهضة في تونس استراتيجية أخرى تعمد إلى المداهنة و اقتسام السلطة حيث تنحى رئيس وزرائها مثلا لصالح وزير تكنوقراطي لتطويق الصراع السياسي المتصاعد بسرعة.
من جهتها بدأت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتان اعتبرتا جماعة الإخوان المسلمين مصدر تهديد ووكيل قطري، بدأت في قمع الحركة وإعلانها منظمة إرهابية. رداً على ذلك، كثفت قطر وتركيا دعمهما للجماعة و رحبتا بالأعضاء الفارين من الملاحقة المصرية، و قدمت الدعم للمجموعات النشطة على أرض ليبيا.
وبسبب قلة التجربة في العمل السياسي و كذا القمع المفرط لم تتمكن جماعة الإخوان في مصر من إحراز أي نصر سياسي يمكِّنها من البقاء في سدة الحكم. لقد زج بعشرات الآلاف من أعضائها في السجن و غيّب الموت قادتها الباقون أو شتتوا في المنافي، كما صودرت أموال الحركة من قبل الحكومة المصرية.
في الأردن، قطعت الحكومة شوطًا مهما نحو تفكيك جماعة الإخوان و صارت مجزأة ومنقسمة. في المغرب، فقد حزب العدالة والتنمية بريقه بعد سنوات من الحكم في ظل القيود التي تفرضها ما تسمى الدولة العميقة. و في تونس، حيث الاستثناء، تبرأ حزب النهضة التونسي بشكل واضح من الإسلام السياسي الذي يتبنى العنف من أجل التغيير بل وأعاد تسمية نفسه بأنه حزب ديمقراطي مسلم. و في دول الخليج، بالكاد تنشط الحركات الإسلامية باستثناء دولة الكويت.
غير أنه مع حلول العام 2013، برزت تنظيمات إسلامية جديدة على المشهد العربي على رأسها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق و الشام (داعش) التي أعلنت نفسها دولة الخلافة الجديدة. لقد نجحت بحملاتها الذكية على وسائل التواصل الاجتماعي إلى جذب عشرات الآلاف من المؤيدين إلى صفوفها. أمام هذا الواقع، وجدت الحركات الإسلامية التقليدية نفسها محاصرة بين رفضها للعنف و تحمس أتباعها لجماعات متطرفة مثل داعش. و أصبح السؤال الملح كالتالي: كيف يمكن لجماعة الإخوان المسلمين المصرية مثلا الاستمرارفي الترويج لسياسة سلمية في حين أن مشاركتها الانتخابية لم تؤد إلا إلى قمع شرس وكارثة تنظيمية، بينما استطاع تنظيم داعش تحقيق نتائج مذهلة بفضل اللجوء إلى العنف بشتى اشكاله؟ الحاصل أن جل الحركات الجهادية عانت من نكسات تلو أخرى غيرأنها لا زالت تشكل قوة سياسية و اديولوجية حيوية و قابلة للانبعاث من جديد.
الجزء الثالث و الأخير
الثورة المضادة والنظام الإقليمي العربي الجديد
بدت تطلعات المحتجين في سائر الوطن العربي وكأنها تنذر بدور جديد للولايات المتحدة في المنطقة، مما أدى إلى تسريع انسحاب واشنطن من المنطقة. هذا الانسحاب أو وفك الارتباط بالشرق الأوسط يعود إلى العديد من الأسباب منها الفشل الذريع أثناء و بعد غزو العراق سنة 2003، و عدم أولوية الاعتماد على النفط ثم الحاجة الاستراتيجية للتركيز على آسيا، بالاضافة الى نفور المواطن الأمريكي من الإنجرار الى مستنقع حرب جديد.
هذا التوجه الإقليمي الجديد و كذا تنامي النفوذ الإيراني أديا إلى تلاشي الوجود الامريكي في المنطقة و دفع دول الشرق الأوسط و شمال إفريقيا إلى تشكيل نظام إقليمي جديد خاص بها. أدى هذا كله إلى ظهور صدع داخل العالم العربي يمتد عبر الخليج مرورًا بالشام إلى شمال إفريقيا سببه التنافس بين دول مثل قطر و المملكة العربية السعودية و تركيا و الإمارات العربية المتحدة. زاد هذا الاستقطاب في تأزيم المشهد السياسي في أكثر من دولة و أدى إلى انهيار المرحلة الانتقالية في ليبيا و انقسام المعارضة السورية.
في ظل هذا الوضع سطع نجم الأمير السعودي محمد بن سلمان بقوة و أصبح الرجل القوي في المملكة. فمنذ أن أصبح وليا جديدا للعهد في بلاده في عام 2015 دشن سلسلة من الخطوات غير المسبوقة إقليميًا و دوليًا بل وأصبح الحاكم الفعلي للسعودية. ففي عهده طالت الاعتقالات العديد من العلماء و الدعاة و الناشطين السياسيين. كما تم اغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي. على الصعيد الخارجي، قادت السعودية العمليات العسكرية في اليمن تحت مسمى “عاصفة الحزم”، و الذي أدى الى كارثة إنسانية. من تجليات الشرق الأوسط الجديد الذي صار يتسم بتعدد الأقطاب نذكرالحصار السعودي الإماراتي ضد قطر في سنة 2017. هذا الخلاف أدى إلى إضعاف بل شل مجلس التعاون الخليجي الذي كان في يوم من الأيام أكثر الهيئات فعالية في المنطقة.
في معظم هذه الصراعات و التجاذبات ظلت الولايات المتحدة الأمريكية شبه غائبة. في عهد الرئيس ترامب، أصبحت إدارته بعيدة عن تشجيع التغيير الديمقراطي أو حتى الدفاع عن حقوق الإنسان. و في المقابل اختار ترامب بدلاً من ذلك الاعتماد على شركاء الولايات المتحدة الاستبداديين – على أمل أن يتمكنوا من تجاهل الرأي العام والدخول في تحالف مفتوح مع إسرائيل، و هو ما حصل رسميا مع البحرين و الإمارات العربية المتحدة و بعد ذلك مع المغرب.
إن الأنظمة التي يُفترض أنها توفر الاستقرار هي الأسباب الرئيسية لعدم الاستقرار. كان الفساد والاستبداد والحكم الفاشل ورفض الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان هي التي دفعت الناس إلى الثورة و الاحتجاج. و يبدو أن اندلاع المزيد من الاحتجاجات الجماهيرية أمر لا مفر منه. ببساطة، هنالك العديد من دوافع عدم الاستقرار السياسي حتى بالنسبة لأكثر الأنظمة قسوة للبقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى. فلقد ساهمت جائحة كوفيد -19 و انهيار أسعار النفط و الانخفاض الحاد في تحويلات العمال المهاجرين إلى زيادة ضغوط جديدة و مكثفة على الاقتصادات الضعيفة في البلدان العربية. كما ان استمرار الحرب في ليبيا وسوريا و اليمن يدفع إلى نزوح الملايين من اللاجئين. و أخيرًا قد يؤدي توتر العلاقات الامريكية الإيرانية الى حرب مدمرة في المنطقة.
الدرس المستفاد من عام 2011 بالنسبة للأنظمة الحاكمة هو أن التهديدات الوجودية التي تغذي السخط الشعبي يمكن أن تظهر من أي مكان و في اي وقت. كما أنه من غير المرجح أن تشبه الاحتجاجات المستقبلية انتفاضات 2011. لقد تغيرت المنطقة كثيرا حيث تعلم الأوتوقراطيون كيفية استقطاب وتعطيل وهزم المنافسين. كما بات مستبعدا أن تفاجئ الاضطرابات الداخلية الأنظمة القائمة، ومن غير المحتمل أن تمتنع الحكومات عن استخدام القوة في المراحل الأولى من الاحتجاج. لكن المتظاهرين المحتملين تعلموا أيضًا دروسًا قيمة.
فعلى الرغم من أن نجاحات الدول الاستبدادية تركت العديد من الجماهير العربية محبطة ومكسرة، إلا أن الحركات الثورية الأخيرة في الجزائر والعراق ولبنان والسودان أظهرت أن الجماهير لا زالت تتميز بقدر كبير من الالتزام وأنها قادرة على الحفاظ على التعبئة السلمية لأشهر متواصلة على الرغم من القمع والاستفزاز.
بكلمة، لا يوجد سبب وجيه للتفاؤل بشأن آفاق العالم العربي. فقد خلقت الانتفاضات مخاوف جديدة عجلت ببروز نظام اقليمي جديد يتميز بالهشاشة. و مرد ذلك هو البون الشاسع بين تطلعات الشعوب من جهة و انفراد الطبقة الحاكمة بالسلطة من جهة أخرى.