ط. العاطفي | أ. الخياري
لم يخل أمين ملوك أنه سيغادر التراب المغربي بحلول ثمانينيات الألفية المنقضية، ولا أن يعيش على الدوام بعيدا عن مدينة وجدة التي احتضنته بمحبة، وإن كان على يقين، منذ الصغر، بأن المجدّين لا يمكن أن يخيبوا في الحياة.
رغم تفرغه لإدارة شركة كبرى في ميدان النسيج الصناعي، التزاما منه بتطبيق ما عرف نظريا وما خبر ميدانيا، إلا أن ملوك يبقى مؤمنا بأن الارتباط بالمغرب ضرورة قصوى لبقائه مرتاحا، حتى عند هذه الصلة في التطوع على الأقل.
وجدة والباكالوريا التقنية
ولد أمين ملوك سنة 1970 في مدينة وجدة، أقصى الشمال الشرقي للمملكة المغربية، مستوفيا سنوات الدراسة الابتدائية في المدينة ذاتها قبل الالتحاق بالثانوية التقنية عمر بن عبد العزيز، حيث حصل على شهادة الباكالوريا.
ينفي ملوك أن يكون فكر في الهجرة أو حاول برمجتها ضمن تحركاته قبل الانتهاء من التحصيل الثانوي، إذ حرص على السير تعليميا بثبات حتى جاء وقت توسيع الآفاق الأكاديمية من خلال البحث عن فرص خارج المملكة.
ويزيد أمين: “كنت مرتاحا كثيرا في مدينة وجدة، لكن تخصصي ساقني نحو الهجرة لتوسيع مداركي والظفر بشواهد مرموقة، وكل من يعرف الباكالوريا التقنية يشهد أن ما يرتبط بها كان محدودا وقتها على الصعيد الوطني”.
بعيدا عن الرعاية
يبتسم أمين ملوك حين يستحضر الصعوبات التي رافقت أولى أيام استقراره في أوروبا، وما وعاه ذاك الحين بشأن ضرورة الاعتماد على النفس، ويقول: “كنت صغير السن وكثير الاعتماد على أسرتي، وفجأة كان علي قضاء مآربي بنفسي، وأن أطبخ ما أسد به رمقي”.
يشدد المتوجه إلى مدينة “تورني” البلجيكية على أنه كان حريصا منذ طفولته على أخذ الأمور ببساطة، وهذا الطبع جعله يتأقلم سريعا مع فضاء استقراره بالمهجر، إذ لم يستنفد غير أيام قليلة كي يفهم ما يلزمه ليسير بثبات على الطريق الصحيح.
“نلت قسطا من العنصرية لا يستحق أن أعيره اهتماما وأتطرق إليه، بينما ركزت كثيرا على النأي بنفسي عن المتاهات التي قد تفضي إلى ابتعادي عن الأهداف التي قادتني بعيدا عن مدينة وجدة، متحليا بعزيمة شديدة لبلوغ ما أريد”، يردف ملوك.
رفض المسارات السهلة
لازم أمين ملوك التعليم العالي ثلاث سنوات لنيل دبلوم تقني متخصص في الصناعات النسيجية، باذلا ما في وسعه للتقدم أكاديميا رغم اضطراره إلى ممارسة مجموعة من المهن الطلابية، بدوامات جزئية، حتى يوفر المال الذي يحتاجه للبقاء حيا وطالبا.
قصد “ابن وجدة” فرنسا لاستكمال التكوين في مسار “ماستر” بالميدان عينه، ورغم إقباله على الزواج خلال هذه المرحلة إلا أنه نجح في التخرج عن جدارة واستحقاق، معتبرا أن المسؤولية الأسرية زادت من شحذ همته على البذل والعطاء علميا.
“كنت أتلقى عروض شغل خلال الدراسة ببلجيكا، فقد جعلني التميز محط أنظار فاعلين كثر بقطاع النسيج، وقبلت بأحد العروض شريطة تمكيني من الاستمرار في الماستر، وعقب الانتهاء من هذا الشوط الدراسي ركزت أكثر مهنيا”، يعلن أمين ملوك.
تطور لافت
بدأ صاحب التوجهات التقنية مشواره المهني مستخدما عاديا في شركة أتاحت له التطور معرفيا بالجامعة، ثم صار يترقى حتى أضحى مديرا للإنتاج ومديرا تقنيا.. واليوم يشغل أمين ملوك منصب مدير للشركة عينها؛ وتنتمي إلى مجموعة معروفة في “النسيج التقني”.
يقول المغربي عينه إن المؤسسة الصناعية التي يديرها تعمل على توفير حاجيات شركات كبرى، ولا ترتبط بالأثواب التي يتم توجيهها إلى الخواص بطريقة مباشرة، إذ تحرص على إبرام عقود ذات صلة بميادين كبرى؛ كالمرافق الاستشفائية وعالم تصنيع السيارات.
ويزيد المتحدث: “نعمل على النسيج التقني بشكل عام، بينما تخصصنا الصريح يلتزم بكل ما يرتبط بالتطبيقات التقنية، بدفتر تحملات قاس يجر عقوبات مالية ثقيلة عند أي اختلال ..راكمنا تجربة دولية في العمل مع علامات كبرى تثق في التنفيذ التقني الذي نقدمه”.
التطوع والسياسة
يعتبر أمين ملوك أن الأداء الإداري الجيد الذي يقوم به يبقيه متحفزا، إلى جانب ما حققه من قبول في مساره الشخصي عموما؛ لذلك لم يتردد في الانخراط ضمن اشتغالات تطوعية كثيرة في محاولة للمساهمة في مساعي إشاعة الطاقة الإيجابية؛ بتركيز على الشباب.
كما يذكر وجدي النشأة أن هجرته صغيرا جعلت حماسة الشباب المغربي تلازمه حتى الآن، ليغدو مؤمنا بقدرة “صغار الجالية” على صناعة الفارق إذا نالوا التأطير اللازم، وقدرة العمل الجمعوي الهادف على المساهمة بفعالية في تحقيق هذا المراد الاجتماعي النافع.
يخصص ملوك قسطا من وقته، بمعية مغاربة آخرين، للاشتغال التطوعي في جمعية “ميز أون اكواسيون” التي تهدف إلى رعاية الشباب المهاجر في بروكسيل وبلجيكا عموما، ومن بين الشريحة المستهدفة عدد وافر من ذوي الأصل المغربي، مفعلة برامج في قضايا المواطنة والتنوع.
ويقر أمين بأنه يبقى مقبلا على الانخراط في العمل السياسي المحلي ببلجيكا، إذ تقدم إلى الانتخابات كي يغدو منتخبا بلديا فعلا، مضيفا هذا الأداء إلى مجموعة من مناصب المسؤولية التدبيرية التي يتموقع فيها؛ بينما يعتبر هذا الالتزام السياسي في مراحله الأولى حتى هذا التوقيت.
الازدواجية والتربية
يشدد المتخصص في النسيج التقني على أن مغاربة العالم لا ينبغي عليهم نسيان الأصل، مثلما يتوجب عليهم الفعل بإيجابية في بلد الاستقرار، خاصة أن ازدواجية الانتماء تتطلب تقديم قيمة مضافة للبلدية والقيام بالمستطاع تجاه الرقي والازدهار ضمن الفضاءين كليهما.
كما يبرز المستقر ضواحي بروكسيل أن مريدي النجاح في أوروبا عليهم بالعزيمة القوية والعمل الجاد، بلا استسهال لهذه البيئة أو اعتبارها أراض لتلقي الهدايا؛ بينما الاصطدام بقسوة الواقع عليه أن يسفر عن التزام بالفعل الصادق دراسيا ومهنيا حتى يتحقق التقدم.
“كل الأسر المغربية ربت أبناءها على المساهمة في المجتمع بإيجابية، بدءا من المعاملة الحسنة للجيران وزملاء الدراسة، لذلك هم مؤهلون للارتباط بالطيبوبة والمعاملة الحسنة..والجيل القادم، مثل الحالي، عليه التحلي بالواقعية حتى لا يركض وراء الأوهام”، يختم أمين ملوك.