يوم من أيام سبتمبر من العام 1979 كان يوما مفصليا في حياتي. اليوم الأول الذي الج فيه المدرسة و عمري لا يتجاوز الست سنوات. كان يوما موحشًا وغاية في الصعوبة. هذه اللحظة العسيرة التي ينتقل منها الطفل من بيئة مألوفة الى أخرى غريبة. وقد وصفها كبار الأدباء و العلماء من مختلف البلدان والثقافات. من بين ما كُتب في هذا الباب، القصيدة الشهيرة First Day At School، (اليوم الأول في المدرسة) للشاعر الانجليزي Roger McGough روجير ماك كَوف، الشهيرة بمطلعها:
“A millionbillionwillion Miles from home”
لكل طفل ذكريات خاصة به تتعلق بهذا اليوم الفريد. فهناك من يذهب مشيا، و هناك من يمتطي دراجة، واخر يركب سيارة فاخرة و و و… اما أنا فكانت لي قصة أخرى. في بادية آيث بويحيي دارت أطوار هذه القصة. كنا مجموعة تتألف من ثلاثة أطفال و رجل راشد: أنا و شقيقي الأكبر، الطيب، الذي كان في القسم الثالث ان لم تخني الذاكرة، و ابن عمي، حسن، الذي كان مثلي يخوض التجربة للمرة الأولى، وعمي. كانت تبعد المدرسة عن منزلنا بحوالي ست كيلومترات او يزيد. لهذا تطوع عمي أن يرافقنا في هذا اليوم المصيري نظرًا لغياب الوالد الذي كان يشتغل في اوروبا. لصغر سني وابن عمي ولبعد المسافة قرر عمي الاستعانة بخدمات بغلة. تم تهيئ و وضع “البردعة” وبعدها “الشواري” بإحكام و ركب عمي الدابة وبعدها تم وضعنا بالتناوب في كفتي الشواري. (البردعة و الشواري هي ما يوضع على ظهر الحمار أو البغل ليُركب عليه او لحمل الأغراض). على بركة الله بدأنا الرحلة وشقيقي الأكبر يتصدر الموكب ماشيا ونحن نتمايل على ظهر البغلة في مشهد سوريالي. كلما توالت خطوات البغلة بدأ منزلنا يصغر في عيوننا وبدأت الأفكار والانطباعات تتزاحم في ذهني. كيف لا وأنا مقبل على عالم جديد و مختلف و نظرتي لا تخلو من الخوف والتوجس من هؤلاء الغرباء والنظم الجديدة التي لم أعهدها من ذي قبل. في الطريق، و من حُسن حظي ان ابن عمي، حَسن، كان يكبرني سنا و وزنا وهذا كان يرجح كفته و بالتالي تعلو كفتي وهذا كان يُمكنني من رؤية أفضل لجغرافية بانورامية تسر الناظر.
مرت هذه الرحلة بسرعة و وصلنا المدرسة التي كان مكتظة بالأطفال.إنها مدرسة لقواس التابعة ترابيًا لجماعة حاسي بركان. ودعنا عمي و انزوينا في ركن قصي ريثما يأذن لنا المعلم بدخول الفصل. بعد هنيهة أثار انتباهي رجل يرتدي جلبابا وهو ينادي علينا للاصطفاف قبل الدخول إلى القسم. انه المعلم السّي لمفضَّل. وقفنا واحدا خلف الآخر بانضباط منقطع النظير وكأننا جنودا نستعد لخوض معركة طاحنة. اَذِن لنا السّي لمفضل بالدخول. بتوتر يظهر على محيانا جلسنا على كراسي عجيبة لصيقة بطاولات. كل طاولة تحتوي على محبرة (وعاء أو قنينة صغيرة فيها حبر). بترقب و صمت كبيرين كنا ننتظر تعليمات المعلم. بدأ الحديث بلسان غريب عنا. كان السّي لمفضَّل يتحدث بعربية دارجة ممزوجة بلكنة جبلية لكونه من قبائل جبالة الشمالية. لم نتمكن من فهم الا القليل مما كان يتفوه به هذا المعلم لان اللغة التي كنا نتداولها آنذاك هي الأمازيغية. كان يوما عسيرًا في محيط غريب رفقة معلم قاس، غفر الله له. مر اليوم الدراسي الاول بشقيه الصباحي و الزوالي. بدأنا الرحلة صوب المنزل وهذه المرة مشيا.
بكل فخر و اعتزاز صارت هذه المشاهد و الانطباعات ترافقني أينما حللت و ارتحلت. ففي كل دخول مدرسي جديد تخالجني هذه الذكريات. في ولوجي للسلك الإعدادي و الثانوي و الجامعي صاحبتني هذه اللحظات. بل حتى لحظات دخولي للجامعة داخل المغرب و خارجه في جامعات أوروبا و أمريكا كانت هذه الذكريات تلازمني بكل تفاصيلها. ذكريات اليوم الأول في المدرسة.
سلامي الحار اخي والجار العزيز حمادي وبلغ سلامي الى الاخ الطيب .بنعيسى الدحماني
وإليك أزكى السلام السّي بنعيسى الجار و الصحبة القديمة. سلامك موصول لشقيقي الطيب ان شاء الله. حفظك الله و رعاك.
تحياتي لك صديق الدراسة و زميل الفصل و لا انسى ابدا ضلوعك الشديد في اللغة الانجليزية عند استاذنا المقتدر و الذي لا اتذكر اسمه بقدر ما اتذكر بنيته القوية الممزوجة بعصبية حادة و لطف لا يضاهى و كنا نلقبه ب سترونج اي القوي …. كانت ايام جميلة سي محمادي تحياتي…
حياك الله السّي أمين. بارك الله فيك.
نعم أذكر جيدا تلك الحصص في اللغة الإنجليزية مع الأستاذ الذي كان التلاميذ يلقبونه ب: سترونغ strong . اسمه الوردي حفظه الله تعالى. وكان فعلا “سترونغ” و ما معاهش التخرشيش… و الويل لمن تجرأ أن يشاكس في القسم. صفعة واحدة بكفه الضخمة تساوي ضربة قاضية على يد ملاكم محترف.
في الحقيقة، قصتي مع الانجليزية و ولعي بها بدأ بعد تلك السنة مع السّي الوردي. لأننا كنا في قسم العلوم التجريبية ولم نكن نهتم كثيراً باللغات.
و من بعد جاب ربي التيسير وتبدلت النظرة ديالي للأمور و مشيت في اتجاه مغاير والحمد لله في كل الأحوال.
أشكركم على تفاعلك و مرورك الكريم.
تحياتي،