مقدمة:
يعتبر الصراع حول الطاقة أهم وأكبر الدوافع لتغيير خريطة بعض دول العالم « Remapping the world » وصعود دول وانهيار أخرى أو تفككها، وقيام أنظمة جديدة موالية ومستعدة لبيع الأوطان وتشريد الشعوب مقابل امتيازات البقاء في السلطة.
كان النفط أحد أسباب غزو العراق للكويت عام 1990، نظرا لتمتع الأخيرة بمنفذ مطل على الخليج العربي على عكس العراق -مع اعتداد الرئيس صدام حسين أنذاك بقوته العسكرية، مقابل ضعف باقي الدول العربية وتخوفها من استقواء شوكته عليهم، إلى جانب تلقيه ضوء أخضرا بعدم التدخل، نظيرا لخدماته في حرب الخليج الأولى ضد إيران من جهة، وإمعانا من الولايات المتحدة وشركائها في التخلص منه من جهة أخرى، حفاظا على إسرائيل، وللنيل من نفط العراق وتمكين شركاتها من استغلاله أبشع استغلال.
كما كانت الاتفاقية المبرمة بين سوريا وإيران والعراق، في يوليوز 2011، التي يتم بموجبها مد أنابيب الغاز من حقل فارس عبر العراق وسوريا ومنها إلى أوروبا، سببا في إشعال الثورة السورية التواقة للتغيير تحت راية الربيع العربي طبعا.
وكان اكتشاف حقل غاز “ظهر” قبالة سواحل مصر سنة 2015، باحتياطي يقدر بحوالي 850 مليار متر مكعب، وراء إعلان روسيا تدخلها العسكري المباشر في سوريا.
وفي أواخر 2019، وقعت تركيا وحكومة الوفاق الليبية اتفاقيتين، تتمثل الأولى في ترسيم حدود بحرية للتنقيب عن النفط الليبي، وتتعلق الثانية بتأمين الحماية العسكرية والأمنية لحكومة السراج المعترف بها دوليا، مما خلفتا حربا وردود فعل دولية بين أطراف الصراع -الظاهرة والخفية.
انطلاقا من هذه المقدمة، يتميز الصراع على الغاز في حوض شرق المتوسط بتداخل أبعاده السياسية والاقتصادية والقانونية والدبلوماسية والأمنية والعسكرية، مما يجعله صراعًا غير مأمون العواقب، نظرا لكثرة المهتمين به محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، وأيضا لوجود خلل في توازن القوى بين أطراف الصراع، بالإضافة إلى تباين المصالح الاقتصادية الضخمة للمنخرطين فيه. فما هي إذن أهم عناصر صراع حوض شرق المتوسط؟
– اكتشاف الغاز والنفط في حوض شرق المتوسط وبداية الصراع:
في البدء، لم تكن أعمال التنقيب لاكتشاف الغاز الطبيعي بحوض البحر الأبيض المتوسط ذات أهمية كبرى، غير أن ما أسال لعاب دول حوض شرق المتوسط أكثر، وباقي اللاعبين الدوليين، هو تقديرات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، سنة 2010، احتمال وجود حوالي 3400 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي في حوض شرق المتوسط.
الأراضي الفلسطينية المحتلة: بدأت شركة «British Gaz» أعمال التنقيب قبالة شواطئ قطاع غزة بين سنتي 1999 و2000، واكتشفت حقلي غاز “غزة مارين” -لكن الأعمال توقفت عام 2007 مع تولي حماس السلطة بالقطاع ومنع إسرائيل الشركات عن التنقيب.
إسرائيل: اكتشفت إسرائيل حقل غاز “تمار” سنة 2009 قبالة ساحل مدينة حيفا باحتياطي يقدر ب 283 مليار متر مكعب، ثم حقل غاز “ليفاثيان”، سنة 2010، باحتياطي يقدر ب 623 مليار متر مكعب فحقل “دانيال” باحتياطي يقدر ب 252 مليار متر مكعب.
قبرص: أكتشف حقل “أفروديت” سنة 2011 ويحتوي قرابة 129 مليار متر مكعب.
مصر: اكتشف الغاز منذ سنة 1969، لكن اكتشاف شركة “إيني” الإيطالية حقل غاز “ظهر”، سنة 2015، كان الأكبر في حوض شرق المتوسط، باحتياطي يصل إلى 850 مليار متر مكعب.
سوريا ولبنان: تقدر احتياطات سوريا من الغاز ب 1250 مليار متر مكعب، ولا تمثل سوى 0.2% من الاحتياطي العالمي، بينما تقدر احتياطات لبنان بحوالي 2718 مليار متر مكعب.
تركيا: رغم سواحلها العريضة على البحر المتوسط، فقد تمركزت كل حقول الغاز المكتشفة إلى حدود سنة 2019، بين قبرص وسوريا ولبنان وإسرائيل والأراضي الفلسطينية ومصر، مما يحرمها من استغلال أي حقول غاز بسواحلها.
– قانون البحار: اتفاقات متعارضة وردود فعل متصلبة.
خضعت البحار قديما لمبدأ حرية الحركة في أعالي البحار، وفي منتصف القرن العشرين ظهرت مناطق الصيد ومناطق الثروات وغيرها. ثم ظهرت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار سنة 1982، ليتم عبرها تعيين المناطق الاقتصادية الخالصة إلى 200 ميل بحري من الشاطئ.
ونتيجة لهذا التحديد، انفجر الوضع في حوض شرق المتوسط وتوالت الصراعات. فالبحر الأبيض المتوسط عبارة عن مسطح مائي ضيق جدا لا يسمح بتطبيق قاعدة 200 ميل. إذ لو طبقتها اليونان التي تمتلك جزرا تكاد تلتصق بالسواحل التركية، فإن الأخيرة لن تحصل سوى على كيلومترات قليلة. لذلك لا تعترف أنقرة بهذه القاعدة، وترفض ترسيم الحدود باحتساب الجزر، ولو كانت كبيرة جدا بحجم جزيرة كريت، وتعتبر خط اليابسة المتصل هو المعيار الأساسي الوحيد لبدء الترسيم المائي، وهذا ما ترفضه اليونان وقبرص جملة وتفصيلا.
ونظرا للخلافات حول هذه القاعدة فالأمم المتحدة تقترح إبرام اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف بين الدول لاقتسام ثروات البحر فيما بينها.
فهل يمكن لدول حوض شرق المتوسط أن تتفق على ترسيم حدودها المائية بشكل ثنائي أو متعدد الأطراف؟
سنة 2003، رسمت مصر وقبرص حدودهما المائية، ورفضتها تركيا.
سنة 2010، رسمت إسرائيل وقبرص حدودهما المائية، ورفضتها تركيا ولبنان.
لا يوجد ترسيم مائي رسمي بين مصر وإسرائيل بالرغم من اشتراكهما في التنقيب والاستكشاف. ونظرا لوجود قطاع غزة بينهما، فأي اتفاق ترسيم مائي بين الدولتين سيعد ملغى، لعدم وجود حدود بحرية في المتوسط بينهما.
سنة 2019، وقعت تركيا اتفاقية لترسيم الحدود المائية مع ليبيا، وترفضها اليونان وقبرص ومصر.
باقي الاختلافات بين دول حوض شرق المتوسط:
مصر وتركيا: الدولتان على قطيعة تامة. فتركيا لا تعترف بالسيسي عقب انقلابه عام 2013 على الرئيس المنتخب ديموقراطيا محمد مرسي، وتدعم الإخوان المسلمين في مقابل محاربة السيسي لهم. وهذا يمنع أي اتفاق بينهما برغم اشتراكهما في نقاط عدة ولهما الأفضلية في حالة الاتفاق.
قبرص (التركية واليونانية): تعتبر قبرص التركية، -التي لا يعترف بها أحد باستثناء تركيا حامية حقوق القبارصة الأتراك، منذ تدخلها عسكريا في شمال قبرص، وإنشاء جمهورية شمال قبرص عام 1974، أن ثروات الجزيرة هي ملك لجميع أبنائها، ولا يجوز استغلالها بمعزل عن الطرف الآخر. لكن قبرص اليونانية، وهي عضو في الاتحاد الأوروبي، تجاهلت هذا الأمر وقامت بترسيم حدود منطقة اقتصادية خالصة لها بشكل أحادي سنة 2010، مما دفع شمال قبرص للرد بخطوة مماثلة، بتحديد حدوده البحرية، وتوقيع اتفاق مع تركيا، لترسيم الجرف القاري سنة 2011. ونتيجة لهذه الإجراءات، أصبح هناك تداخل بين المناطق المحددة من قبل الطرفين.
تركيا وقبرص واليونان: لم تصبح تركيا عضوًا في معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، وأحد أسباب ذلك هو نزاعها مع اليونان في بحر إيجه. كما تعتبر تركيا أن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي حددتها قبرص اليونانية تتداخل مع الجرف القاري التركي ومع المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة لها والتي لم يتم الإعلان عنها رسميًّا نظرا لرفض تركيا قاعدة 200 ميل بحري. وعليه، لا تعترف تركيا بالاتفاقات التي أقامتها قبرص (اليونانية) لترسيم منطقتها الاقتصادية الخالصة مع كل من مصر وإسرائيل ولبنان، وترى أن إرساء المناقصات على الشركات الأجنبية للبحث والتنقيب على الغاز في هذه المنطقة غير قانوني، لأنه ينتهك حقوقها.
إسرائيل وتركيا: تدهورت العلاقات الدبلوماسية منذ أحداث سفينة مرمرة عام 2010، مع تجميد تركيا، سنة 2014، المفاوضات حول إنشاء أنابيب لنقل الغاز الإسرائيلي نحوها.
لبنان وإسرائيل وقبرص: لم يُرسم البلدان الأولان حدودهما المائية لوجود نزاع قانوني بينهما، ويثار الإشكال تحديدًا حول المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة للبنان رقم 9، ذات موارد طبيعية هائلة من الغاز والنفط. ويرفض لبنان اتفاق الترسيم بين قبرص وإسرائيل لنفس الغاية.
سوريا وتركيا: البلدان على خلاف أيضا منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث تدخلت تركيا في الأراضي السورية عسكريا بحجة تحييد منظمات إرهابية معادية لها، واقتصاديا حيث قامت حاليا في شمالي سوريا بتغيير الليرة السورية بالتركية لتحريك عجلة الاقتصاد التركي، إلى جانب تأسيس أسواق ومؤسسات تركية تنشط هناك.
سوريا ولبنان: لم توقِّع سوريا بعد على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ورفضت ترسيم حدودها مع لبنان.
السلطة الوطنية الفلسطينية وإسرائيل: يمنع الاحتلال الإسرائيلي استغلال الفلسطينيين لثرواتهم بشكل كامل لأسباب سياسية واقتصادية، وبسبب الخلل في ميزان القوى والتشرذم الداخلي.
– مشاريع نقل الغاز:
هناك صراع بين دول حوض شرق المتوسط حول من سينقل الغاز إلى أوروبا -القارة المتعطشة للطاقة، والتي تفضل وجود بدائل للغاز الروسي الذي يوفر 37٪ من احتياجاتها.
مشروع غاز حقل فارس: شكل هذا المشروع تهديدا مباشرا للولايات المتحدة، حيث كان سيؤدي إلى إنشاء نظام لإمداد الطاقة إلى أوروبا مستقل عنها. فتم إجهاضه وتغيير خريطة سوريا بالكامل.
مشروع غاز إسرائيل وتركيا: أنقرة متعطشة للغاز عموما، وتنفق 43 مليار دولار على استيراد الطاقة سنويا، وتستورد 60٪ من احتياجاتها الطاقية من روسيا، و20٪ من إيران. لذلك سيكون غاز المتوسط بديلا آمنا وأقل كلفة لتلبية الاحتياجات المحلية إلى جانب التحول إلى مركز تصدير. هذا الخط غير مكلف ويقطع مسافة 470 كلم فقط، لكنه يلقى اعتراض لبنان وسوريا وقبرص، ويحتاج تنسيقا تركيا مع إسرائيل وسوريا ولبنان، وهذا محال لكثرة الاختلافات بين هذه الدول.
مشروع إسالة غاز مصر: تكاليف إنشاء مصانع إنتاجه وتوزيعه باهظة جدا بالنسبة لحجم مصر، علاوة عن أنها لا تمتلك أسطولا ملائما من سفن الشحن المتطورة، أضف إلى ذلك انها مستهلك شره للغاز، ويمتص استهلاكها المحلي كل إنتاجها من الطاقة، ولديها اتفاقية لاستيراد الغاز الإسرائيلي بقيمة 21 مليار دولار تعود لسنة 2018 ويسري مفعولها طيلة 10 سنوات.
خط أنابيب Med East: انعقد “منتدى غاز شرق المتوسط” في يناير 2019 وشاركت فيه مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا والأردن، واستبعدت منه تركيا وشمال قبرص رفقة سوريا ولبنان. لكن هذا الخط، الذي ينطلق من إسرائيل ويمر قرب قبرص ويصل إلى اليونان ثم إلى إيطاليا، تقف أمامه عوائق كثيرة، وأهمها تكلفته الباهظة (بين 7 و15 مليار دولار)، وتجاوز عمق المياه 5000 متر، كما يلقى اعتراضا تركيا يدعمه ترسيم حدودها البحرية مع ليبيا. ورغم هذه العوائق فقد جرى التوقيع عليه رسميا بين إسرائيل واليونان وقبرص في 2 يناير 2020.
– روسيا: قطعة الأحجية «Puzzle» الناقصة.
لكن ماذا عن روسيا الاتحادية؟ وما دخلها في شأن نزاع إقليمي متوسطي محض؟
الملاحظ أنها تملأ الفراغ -إلى جانب تركيا-الناتج عن غياب الولايات المتحدة في سوريا وليبيا، أو حضورها بالوكالة. إنها اليوم اللاعب الرئيسي في حوض شرق المتوسط، حيث تسيطر على جميع عقود استثمار الغاز والنفط السوريين مع النظام السوري، كما وقعت العديد من العقود مع لبنان لنفس الغرض مستغلة علاقاتها الجيدة مع إيران وحزب الله، وكما تتمتع بعلاقة طيبة مع جميع دول شرق المتوسط (مصر وإسرائيل وقبرص واليونان وتركيا) وتحظى حاليا بنفوذ قوي في ليبيا.
إذن فروسيا جزء مهم من لعبة غاز شرق المتوسط لعدة اعتبارات. ذلك أن سوريا أولا تحت نفوذ روسي كامل. ويلاحظ أن كل ما يتعلق بإمدادات الغاز بالمنطقة، برا أو بحرا، ستكون سوريا جزء منه. فهي تتواجد ضمن موقع يتحكم في الطريق بين إحدى أهم مناطق إنتاج النفط والغاز في العالم وأسواق الاستهلاك الضخمة في أوروبا، حيث يشكل ممرا اقتصاديا استراتيجيا لأنابيب تصدير النفط والغاز من الخليج والعراق وإيران إلى أوروبا من خلال تركيا، أو موانئ سوريا ولبنان، إلى جانب موقعها الجيو-استراتيجي كدولة عربية ترتبط بحدود برية وبحرية مباشرة مع دول الحلف الأطلسي -تركيا وقبرص واليونان. أما ثانيا، فستستفيد روسيا عبر شركاتها التي تقوم بالتنقيب والشحن والنقل. وثالثا عقود إعمار سوريا المسيلة للعاب وتقدر بحوالي 200 مليار دولار على الأقل. هذا إن لم تتقاسم كل هذه الفوائد مع باقي اللاعبين الدوليين والإقليميين الذين يصرون أشد الإصرار على التوافق -“تقاسم الكعكة”، من أجل حلحلة الملف السوري وعلى إسم بديل للأسد.
خاتمة:
ختاما، يبدو أن الصراع في حوض شرق المتوسط بين أطراف الصراع المحلية والإقليمية والدولية، سياسي وحربي بامتياز، غير مأمون العواقب، ويحتكم إلى المصالح أكثر منه إلى العداوات. ومن أبرز ملامحه، بعد الصراع الدائر في سوريا، الصراع في ليبيا على من يتحكم في النفط والغاز اللبيين بين تركيا، بالوكالة عن الولايات المتحدة الأمريكية، وبين مصر، بالوكالة عن الإمارات والسعودية، وروسيا وفرنسا، وبمباركة من أبناء ليبيا، أبناء عمر المختار، وتحت إشراف دول إقليمية ومنظمات دولية كالأمم المتحدة وما ينتج عنها من اتفاقيات. (أنظر المقال السابق: “ليبيا: الواقع والمآل”).
حرب تركية اسرائيلية على غاز المتوسط الخاسر الأكبر فيها هو مصر التي فرطت في مياهها الإقليمية و التي يسيرها نتنياهو بالريموت