بقلم: محسن الكرطيط
أكتب هاته الأسطر نتيجة لكبت مستفزّ عشته لثمانية أعوام قضيتُها بين مقاعد مدرجات بؤرة العلوم الاجتماعية، التي يتحدث عنها المثل الشعبي “طاح الفاس فالراس”.
الجامعة هي مصنع فكري مطمحه إنبات علم متوازن يفسّر الظواهر الطبيعية والاجتماعية، ما ظهر منها وما بطن، حفاظاً على الدور المنوط به، منذ أن شيّد من قِبل عظماء الفكر في قرن أرقام الوحدات، والمساهمة بكل ثانية ودقيقة ويوم وأسبوع وشهر وسنة في توليد المعرفة وتطوير البحوث والدراسات ونشر تعليم كفيل بتنمية المطمع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي لكل مجتمع.
حقيقة هذا المصنع في سنة 2020 بمكوناته الثلاثة: الإدارة، الأساتذة والطلبة.
إدارة الكلية هي بنك يجمع أصحاب الرساميل الذين جعلوا من الجامعة قرية مالية، نموذجا مصغرا للقارة الإفريقية، يحجّ إليها المستثمرون وتكشف لهم نقط البيع بالمزاد العلني ويطلق العنان لتراشق صفقات الملايين والألوف، سوق أوراق مالية تُوفّر فرصاً لأغلبية العاملين المتشابهين في نسبهم بين موظفين ومسؤولين وعاملين، جعلوا من الجامعة موروثا يورث أباً عن جد، فيسهل لمح ذلك حين تلحظ تطابق نسب العميد ونسب رئيس الشّعبة أو المؤطر لماستر معين أو باحث في دكتوراه، كلهم يقتسمون كعكة الميزانية التي يصرف قسطها الأكبر في العشب والصباغة، وما تبقى من الدريهمات تقتنى به الأقلام والأوراق والآلات الجديدة التي تعوّض المكانات “الجديدة” التي سبقتها.
فأين الربّان ليقود سفينة الرسالة المقدّسة؟ الكل مشغول بمراقبة أسهمه ببورصة الجامعة، وسفينة العلم تنزاح عن منحاها السليم، سبيل التعليم والتعلم والتنقيب عن المعرفة، تبتعد عن تعزيز وتزويد الخريجين بالمهارات اللازمة لمواكبة تحديات التنمية المستدامة.
كلية العلوم القانونية، حيث لم يعد الطلبة يبحثون وينجزون أعمالا فكرية، فقد أصبح خطيب يختار للطلبة عنوانين ويحدد مجال البحث، ويقيدهم في مواضيع مقزّمة لا تتعدّى خمسة عناوين على أقصى حد، يصادف أن الإطار التي تندرج به العناوين له علاقة وطيدة وعنوان “الدكتوراه” التي حصلّها الأستاذ في مساره الدراسي، أمر لا يتقبله منطق العقل السليم أن يقيّد الطالب وتوضع له “الدراقة ” بهذا الشكل وتحكم له “الحجابة” بين ناظريه ويصفّد مساره إلاّ لأمرين هما:
-أولا: أن هناك تخوفا من أن يأتي الطالب بما يفوق القوة الاستيعابية للأستاذ.. وبالتالي، فإن ضعفه الفكري لن يخول له حتى فهم ما حُبّر بأرواق الموضوع فما بالك من استيعابه وتحمّل مسؤولية تصحيح، واكتساب جرأة تنقيطه.
ولعدم التّوهن في جودة الأستاذ/ة والتشكيك في كفاءته كما دأب عميد الكلية على البوح به، هناك أمر ثان.
ـ ثانياً: الأستاذ ملزم بأبحاث معيّنة، ويتقاضى أجراً إضافياً محترماً، لتسيير أحد المختبرات، وتُكفل له العديد من المسؤوليات البيداغوجية..؛ يمكنه تحمل سيل الأموال المدرة بحسابه البنكي، وله ما يكفي من الوقت للاستفادة من امتيازات المخوّلة له؛ لكن لا متّسع له للقيام بكل البحوث المنوطة له.. لهذا، يقدمها لطلبته، ويجعل منها قنطرة عبورهم لتحصّلهم شهادة الإجازة / الماستر / الدكتوراه، فيكون للطالب مدة زمنية معينة للملمة ما يمكن لمّه وتسطيره، ويقدّمه إلى الأستاذ كعشاء جاهز الاقتيات، فقط ينقصه توقيع وإدراج اسم صغير في الأسفل.
أما الصّنف من الأساتذة الجامعيين المقصود لهم هذا المنشور هم “النقال” العاجزون عن تشغيل خلاياهم الفكرية والمكتفين بتقطيع فقرات أوراق المجلدات التي أنجزها أهرام علماء الاجتماع، وتلصيقها بلاصق و”الكرافوز” ووضعها ككتب تساير اللّحظة بعناوين عصرية تباع بأثمنة تضيف صفراً أو صفرين على يمين الأجر الشهري، هم ذاك النّوع المتحزّب المتقنون لتقنيات نفث سموم انتماءاتهم السّياسية في عسل المحاضرة، المقزمة المفهومة، في خطبة أسبوعية تحت قانون “ومن لغا فلا حصّة له”.. هكذا بعد أن كانت أطروحة الدكتوراه تأتي بالبديل وتمثّل محاولة لسدّ ثغرات الحقيقة النسبية البالية ..، أضحت سنوات البحث في سلك الدكتوراه مظاهر مزركشة بمحفظة جلدية وربطة عنق سوداء مرفوقة بحلاقة عصرية، كلها مكونات هيأة تدخل الندوات وتلتقط صور رئاسة جمعيات مع تقديم بعض الخدمات للمشرفين والمشرفات.
ربما إذا حافظت المكونات على هذا الرسم من الانبطاح، سنصل يوما يغادر الأستاذ المدرج ويتطوع طالباً للتوجه نحو السبورة وتسجيل أسماء المشاغبين المدردشين بمقاعد القاعة..
نعم، إنها الطينة التي تولدها منهجية التعليم العالي حالياً؛ الطلبة الخدومون، الغيورون على مصلحة الأستاذ في الانتخابات التشريعية، المثابرون في حرث هكتارات نفوذ سلطة الأستاذ.
وبمثل هذا المسار، لا يمكن التخرج بشواهد يُفتخر لجودتها، ديبلومات تخوّل لحامليها مقاعد المسؤولية بمؤسسات الدولة، أبناء هاته المشيمة هي كفاءات توفّر اليد العاملة بالمصانع والمقاهي وما شاببها من أعمال القطاعات غير المهيكلة.
وأن أروع هندسة أن تبني جسراً من الأمل فوق نهر من اليأس “طوماس أديسون”
يمكن استغلال وميض الأمل المتبقي وجعله شعلة تخرج المجتمع من الظلمات إلى النور فقط بنقط هي:
-أن توضع الجامعة تحت رعاية المؤمنين بالعلم، المقتنعين بضرورته
-عدم الاعتماد على الجاهز من نتائج الأبحاث .
-أن تكون حاجة المجتمع هي مخترعة محتوى التعليم.