الدكتور محمادي لغزاوي
في مثل هذا اليوم، الثالث عشر من شهر يونيو، تحل الذكرى السادسة من وفاة المفكر وعالم المستقبليات المغربي البروفيسور الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله تعالى. في هذه الورقة سنحاول التعريف برجل ليس كباقي الرجال وبعالم ليس كباقي العلماء. لكونه يعد من أبرز المفكرين الذين عرفتهم الساحة الفكرية الوطنية المغربية والدولية. إنه عالم المستقبليات (futurology/future studies) الأستاذ المهدي المنجرة. وأود ان أنوه في البداية أنني ترددت كثيرا قبل البدء في خط هذه الكلمات التي لن ادعي أبدا أنني سأكون قادرًا على الاحاطة ولو بجانب واحد من إنجازات هذه المَعلمة. فلقد أحسست وكأنني قزم يقف أمام هرم الجيزة. غير ان العامل الرئيس الذي شجعني لخوض هذه المغامرة هو تقديم الرجل لقراء هذا الجيل لعلنا جميعا نتأسى ونتزود ولو بنزر يسير مما انتجه هذا الهرم الفكري. ومن الأمور التي اود ان اؤكد عليها في هذا الباب كون ان هذه الورقة تعريفية عامة أكثر منها تحليلية لفكر الرجل. حيث تستحيل دراسة افكاره ونظرياته في مقال او مقالين. فإذا يسّر الله تعالى في قادم الأيام ستكون لنا عودة لمحاولة تقريب القراء الأفاضل من فكر ودراسات ومشاريع هذا العالم المقتدر.
وأذكر في هذا السياق ان معرفتي الأولى بالرجل وفكره كانت في سنتي الجامعية الأولى في مطلع تسعينيات القرن الماضي. لقد كانت إحدى الجرائد اليومية المغربية، ولعلها L ’opinion، كانت هذه الجريدة تنشر سلسلة مقالات كان يكتبها الاستاذ المنجرة باللغة الانجليزية في ملحق يوم الاحد حول موضوع الحرب الحضارية الأولى. أيقنت وقتذاك ان الامر لا يتعلق بمقالات عادية بل هي دراسات تتميز بتحليل ثاقب يجعلك تعيد قراءة النص لمرات عديدة. بعد هذا التعارف الورقي عبر الجريدة حصل لي شرف متابعة محاضرات الاستاذ المنجرة المتميزة في مناسبات عدة في مدرجات جامعة وجدة وكذا في المدرسة المحمدية للمهندسين بالرباط. ومن الأمور التي كان للمرحوم المنجرة السبق فيها كونه اول من استعمل جهاز الحاسوب المحمول (laptop) في محاضراته في الجامعة المغربية، وكان له الفضل أيضا رحمه الله ان تعرفنا نحن الطلبة لاول مرة وعن قرب على هذا الجهاز الغريب انذاك.
ولد المهدي المنجرة بمدينة الرباط سنة 1933 في أسرة محافظة متعلمة ودرس التعليم الابتدائي والثانوي في المدينة ذاتها. في سنة 1948 أرسله والده إِلى الولايات المتحدة الامريكية لاستكمال دراسته الجامعية. وعلى عكس الطلبة المغاربة، وعلى قلتهم في تلك الحقبة، الذين كانوا يتجهون إِلى فرنسا من أجل الدراسة فإن الأستاذ المنجرة يعد بهذا اول طالب مغربي يبتعث إِلى امريكا لمتابعة دراساته العليا. أبلى الشاب الطموح المهدي المنجرة البلاء الحسن وحصل على الإجازة في الكيمياء والبيولوجيا. بعد ذلك انتقل الى لندن سنة 1954، اي سنتين قبل استقلال المغرب، وهناك في عاصمة الضباب حصل على شهادة الدكتوراه في الاقتصاد وكان موضوع اطروحته حول “الجامعة العربية”.
شغل المنجرة بعد ذلك وظائف أكاديمية مختلفة حيث عينه الملك الراحل محمد الخامس رحمه الله كأول استاذ جامعي مغربي بكلية الحقوق بالرباط وكان وقتها أصغر المدرسين والباحثين سنا في الجامعة. بعدها عاد المنجرة ادراجه الى لندن حيث اشتغل أستاذا باحثا بجامعة لندن. كما تولى عدة مناصب في منظمتي اليونيسكو والأمم المتحدة. جدير ذكره في هذا السياق ان الأستاذ المنجرة رفض غير ما مرة عروض الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله لتولي مناصب وزارية، وكان يرفض ويعتذر بأدب ليتفرغ إلى المجال الذي يبدع فيه والذي هو البحث العلمي. إِلى جانب غزارة تأليف هذا العالم الفذ في مختلف المجالات، غير ان تميزه قد كان في الدراسات المستقبلية والعلاقات الدولية. فبحركيته ساهم بشكل فعال في تأسيس اول أكاديمية لعلم المستقبليات. كما ترأس الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية بين عام 1977 و 1981. وللراحل أكثر من 80 إصدار بين مؤلفات في علم الاقتصاد، السياسية الدولية الدراسات المستقبلية. من أبرز كتب الراحل وأكثرها ترجمة إلى لغات عالمية نذكر “الحرب الحضارية الأولى ” و “الإهانة في عهد الميغا-إمبريالية ” و “عولمة العولمة” و “قيمة القيم” و “حوار التواصل” و “نظام الأمم المتحدة”.
حصل المفكر الراحل المنجرة خلال مساره الأكاديمي الحافل على عدة جوائز و أوسمة منها جائزة الأدب الفرنسي بجامعة كورنل سنة 1953، ووسام الاستقلال بالأردن سنة 1960، و الجائزة الكبرى للأكاديمية المعمارية بباريس سنة 1984، كما تقلد وسام الشمس المشرقة باليابان سنة 1986، وجائزة السلام لسنة 1990 من معهد البرت اينشتاين الدولي. كما نال جائزة الفدرالية الدولية للدراسات المستقبلية عام 1991. ومن سمات الكرم عند الفقيد نذكر انه وكما كان يكرَّم بكل تلك الجوائز فقد صار يُكرِّم الاخرين، حيث أطلق جائزة “التواصل الثقافي بين الشمال والجنوب” سنة 1991 والتي كانت تمول من ريع كتبه. تمنح هذه الجائزة في 17 يناير من كل سنة حيث يصادف هذا التاريخ ذكرى الحرب التي شنتها أمريكا و حلفائها ضد العراق سنة 1991. وقد منحت للعديد من الأسماء في مجالات مختلفة كالفنان الساخر احمد السنوسي، و وزير العدل الامريكي السابق رامزي كلارك. كما منحت الجائزة سنة 2001 للطفل الفلسطيني الشهيد محمد جمال الدرة. كما يسجل للراحل المهدي المنجرة أنه قد أسهم بشكل فعال في الإعداد لأول مؤتمر حول مستقبل الاسلام والذي احتضنته الجزائر العاصمة سنة 1990 وبمشاركة العديد من الوجوه المعروفة على الساحة العلمية والثقافية حينئذ من قبيل القرضاوي، الترابي، الغنوشي والغزالي وآخرون. و بالإضافة الى حصده لهذا الكم الهائل من الجوائز فقد حصد الفقيد أغلى من هذا. لقد حصد وكسب حب وثقة الشعب المغربي شبابا وشيبا وبمختلف أطيافه السياسية و الاجتماعية و الثقافية. كيف لا والرجل عاش وكله امل أن يحقق المغرب الاكتفاء الذاتي الغذائي و تقليص نسبة الامية. كما عبر غير مرة عن أمله في ان تستفيد كل ساكنة مغرب 2020 من الماء الصالح للشرب.
المهدي المنجرة رحمه الله وإلى جانب مسيرته الحافلة كان أيضاً مصدر ازعاج للعديد من الجهات النافذة في المغرب او ما صار يصطلح عليه بـ”الدولة العميقة”. فقد دأب في تنظيره على توجيه أسهم النقد الى النخبة النافذة والمتحكمة في المغرب محملا إياها مسوؤلية ما كان يسميه بـ “الاستعمار الجديد”. وبسبب افكار هذا الرجل الحر التي لم ترق بعض الجهات تعرض لمضايقات متكررة كما تم منعه بشكل متكرر من إلقاء محاضرات في المغرب. اضطره هذا الوضع إلى الهجرة نحو اليابان حيث وجد ضالته في بيئة تحترم العلم وتقدر أهله. فأشرف هناك على العديد من الأبحاث والمشاريع الأكاديمية في مجالات مختلفة مثل التواصل بين العالمين الاسلامي والياباني بالاضافة الدراسات المستقبلية. وعُرف عن الراحل تعلقه وإشادته بالنموذج الياباني في مجال التنمية وأهميته بالنسبة لدول العالم الثالث. كما سخر الأستاذ المنجرة قلمه ولسانه للتصدي للإمبريالية والنيو-ليبيرالية وكذا الدفاع عن حق شعوب العالم الثالث في تنمية شاملة ومستقلة.
وقد اعترف العديد من المفكرين العالميي المرموقين بنبوغ وابداع هذا العالم المغربي، حيث أقر المفكر الامريكي سامويل هانتينغتون صاحب نظرية “صدام الحضارات” بأسبقية المهدي المنجرة في التنظير لأطروحة صدام أو صراع الحضارات وأحقيته في الملكية الفكرية لمصطلح “صدام الحضارات” هذا لكن بمقاربة مختلفة.
توفي المهدي المنجرة يوم الجمعة 13 يونيو بالرباط ودفن بها، تاركا وراءه ليس فقط انتاجات و ابحاث غزيرة، بل مشروعا بأكمله وصار معلمة ليس فقط في الدول العربية والاسلامية بل في العالم قاطبة. يذهب البعض أنه بوفاة المفكر محمد عابد الجابري، رحمه الله ،قد فقد المغرب “عقله” فإنه برحيل المهدي المنجرة قد يفقد المغرب “مستقبله” إذا لم نفطن وننهل من علم هؤلاء الكبار.
رحم الله فقيدنا واسكنه فسيح جناته، وجزاه الله عنا خير الجزاء.
تحياتي للكاتب محمادي الغزاوي. ودعواتي بالرحمة لفقيد المغرب والعالم الإسلامي الدكتور المهدي المنجرة، العالم الفذ، نموذج الطلاب الناجحين في بعثتهم الطلابية نحو العالم الأنجلوساكسوني، والتي آتت أكلها بتملك المغرب لرجل وعالم من طينة المنجرة، في مقابل ضعف البعثات الفرنسية التي لم تأتي إلا بمدراء للإدارة الترابية يسمون سياسيين بالمغرب.
كنا سنكون سباقين إلى التقدم لو أن المغرب استفاد من علمه الذي يخص المستقبل وهذا العلم الذي أراه ينسجم مع الدراسات الجيوسياسية التي تعتمدها الدول المتقدمة في توجهاتها للسنين المقبلة. فمثلا كل سنة تصدر الولايات المتحدة في مجلة Foreign policy تقاريرها السنوية عن العلام والتي تحمل في طياتها توجهات الولايات المتحدة في السنين الموالية. فبعد صدور مقالة صراع الحضارات ل Samuel Huntington نزعت الولايات المتحدة إلى إذكاء الصراعات في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفي جل بقاع العالم. وهذا التوجه ازداد قوة وشرارة مع أشد الرؤساء الأمريكيين حبا لتدمير قدرات الدول التي تتحدى المارد الأمريكي وتسابقه الزمن لتنافسه على صدارة العالم أو تقاسمه إياه في شكل جديد من أشكال القطبية والتحكم في قرارات تخص باقي دول العالم التي ترزح تحت مصطلح في طور النمو لعشرات العقود من السنين دون نتيجة تذكر.
تحية أخوية ملئها الحب والمودة للأستاذين الجليلين د. المهدي المنجرة ود محمادي لغزاوي ولكل من سار على طريق العلم والمعرفة وسبل التقدم والتحصيل المعرفي والعلمي.
رحم الله الفقيد وتغمده برحمته الواسعة
لاتزال كلماته ترن في أذني اقرأ مادمت حيا
تقرأ تشق لنفسك مسارا قابلا للقراءة