الدكتور محمادي لغــزاوي
منذ ما يقارب الثلاثين عامًا، أعلن المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ” في كتابه الشهير “نهاية التاريخ والانسان الأخير”. مفاد نظرية نهاية التاريخ هذه والتي أثارت جدلا كبيرا وقتئذ أن فشل الأنظمة الشيوعية بعد الحرب الباردة وما تلا ذلك من أحداث متسارعة من قبيل تفكك واختفاء الاتحاد السوفياتي من المسرح العالمي أدى الى انتصارالديمقراطية الليبرالية والرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي تأسيسه لأطروحته سلك فوكوياما نهجا فلسفيا يعود الى الدولة اليونانية القديمة حيث اعتبر أفلاطون مثلا أن الديمقراطية الليبرالية هي نظام الحكم الوحيد والضروري لتحقيق سعادة الانسان. كما اعتمد صاحب هذه النظرية في تحليله على فلسفات و ايديولوجيات هيجل وكارل ماركس الذين يعرفان التاريخ البشري على أنه تطور خطي ينتقل من حقبة اجتماعية واقتصادية الى أخرى ويعتمد على قوانين الديالكتيك. لكن فبينما تنبأ ماركس بأن انتصار الشيوعية سيؤدي إلى زوال الدولة ككل، يذهب فوكوياما بدلاً من ذلك الى أنه مع انتصار الديمقراطية الليبرالية ، فإن التاريخ سيتوقف. وفي الوقت ذاته يشدد فوكوياما أنه لا يجب فهم نهاية التاريخ على أنه ليست هناك أحداث أخرى ولم يعد هناك أشخاص يولدون يموتون ، بل يجب اعتبار هذا الأمر كحل نهائي للتوترات التي تدفع التاريخ إلى الأمام. نهاية التاريخ بالنسبة لفوكوياما هي نقطة النهاية للتطور الإيديولوجي للبشرية وعالمية بل “كوننة” الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي في الممارسة السياسية.
هذه الخارطة السياسية التي نظّر لها فوكوياما واخرون انتجت نظامًا عالميًا جديدا تحت قيادة الولايات المتحدة الامريكية. هذا النظام الذي كان بالأمس القريب حصنا منيعا اصبح يترنح بل ان بعض المتشائمين يرون ان الرأسمالية الغربية بمفاهيمها القائمة في طريقها الى التلاشي . وفي الوقت الحاضر كشفت جائحة كورونا عورة النظام السائد ويذهب بعض المحللين إلى ان هذا الفيروس يعتبر المسمار الاخير في نعش الليبرالية الرأسمالية. لا يتجادل اثنان في ان جائحة كورونا أعادت تشكيل عالمنا الحاضر. و بحسب الممثل الأعلى للسياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي ، جوزيب لوريل، فإن نهاية الهيمنة الامريكية باتت في الأفق. “كان المحللون يتحدثون عن نهاية نظام بقيادة الولايات المتحدة وحلول قرن آسيوي. إنه يحدث الآن أمام أعيننا”. هذا ما ادلى به هذا السياسي المخضرم في تصريح صحفي مؤخرا.
وقد عزز هذا الوباء توجهات عدة طفت على سطح الخارطة الدولية. فنحن نعيش في عالم لم يعد يتوفر على قائد واضح المعالم حيث تزداد اهمية القارة الاسيوية والصين على وجه الخصوص في مجالات الاقتصاد ، الأمن والتكنولوجيا. هكذا اذن ينضاف عامل الجغرافية الى التاريخ لتحديد معالم نظام جديد قديم كان بالأمس القريب تقليديًا ويتسم بقطبية أحادية. فبعد بضعة اسابيع من بداية انتشار الفيروس التاجي أظهرت بعض الارقام أن الولايات المتحدة الامريكية كانت الأكثر تضررًا فيما يتعلق بمجمل حالات الإصابات. كما كشف التعاطي مع الوباء الفشل الذريع للجهات المختصة في أمريكا في تقديم الاسعافات الضرورية وكيفية فرض العزل والتباعد الاجتماعيين وكذا سبل ايجاد لقاحات فعالة ضد الفيروس المستجد. والملفت أيضاً في هذا السياق هو الخرجات الاعلامية للرئيس الامريكي دونالد ترامب في الايام الاولى من بداية الأزمة الصحية. في كل مرة كان يفاجيء العالم باختياره المحكم للمفردات في تغريداته على تويتر وفي المؤتمرات الصحفية حيث دأب غير ما مرة على وصف الوباء ب “الفيروس الصيني”. اختيار هذه الاوصاف الدقيقة لم يأت عن فراغ والمراد منه استفزاز الخصوم والخوض في حرب كلامية لإثبات التفوق الامريكي على القوى الأخرى في شتى المجالات. هذا الارتباك الأمريكي والخوف من فقدان السيطرة على العالم دفع بالرئيس الامريكي ترامب لإلقاء اللوم على منظمة الصحة العالمية واتهامها بـ “إخفاء ” جوانب من مخاطر الفيروس وكذا “التقليل من التهديد الذي يشكله هذا الفيروس”. هذا التوتر دفع ترامب الى تعليق مساهمة بلاده المالية في منظمة الصحة العالمية.
في ظل هذه المستجدات اذن بات النظام العالمي يعيش حالة من التذبذب وعدم التوازن. فهناك من كان متفائلا واعتبره مثاليا وفي المقابل نجد من مال إلى التشاؤم وبشّر بسقوطه. المتفائلون لا زالوا يرون في الليبرالية أنموذجا بإمكانه ايصال البشرية إلى بر الأمان، وأن الجائحة هاته ما هي الا طارىء ظرفي يمكن التغلب عليه كباقي الاخطار مثل ظاهرة الارهاب. من جانب اخر يرى المتشائمون ذوي الطرح الواقعي ان هذه الأزمة الصحية العابرة للقارات قد خلخلت النظام العالمي التقليدي الذي ساد بعد سقوط جدار برلين.
لا شك أن العالم لا زال يعيش تحت صدمة غير مسبوقة وانه لم ينقشع الغبار بعد. وبالتالي يصعب التنبؤ بما ستؤول اليه العلاقات الدولية في حقبة ما بعد كورونا وكذا الادوار الاقليمية للقوى الصاعدة. فعلينا إذن ان ننتظر لرؤية التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذه الجائحة. كما لا يجب ان نغفل موجة ثانية محتملة في المستقبل القريب. فنحن اليوم امام تحدي كوفيد-19 وبعد خمس سنوات قد نواجه كوفيد-25. الأمر الذي بات اكيدا هو ان هذه الجائحة قد أظهرت ان هنالك أزمة بنيوية في صلب النظام الدولي والذي أصبح يسوده نوع من الفراغ. هذا المشهد قد يؤدي الى تسريع بروز نظام دولي متعدد الأقطاب، بل هناك من يذهب أبعد من ذلك ويخشى ظهور دول قومية او أنظمة شعبوية يمينية بل حتى شمولية.
ومن نافلة القول انه وبالرغم من ماساوية هذه الأزمة الصحية الا انها تحمل الكثير من المزايا و الدروس التي يمكن استخلاصها. فعلى المستوى البيئي اظهرت بعض الأرقام الأولية انخفاض نسبة التلوث في الهواء والبحر. وفي قطاعات مختلفة تم تحويل أزمة كورونا الى فرص، حيث تم اختبار جاهزية شبكات الاتصال التي يعول عليها في العمل والدراسة. بل ان العديد من الدول استغلت هذه الازمة لخلق نظام رقمي فعال يستجيب لمثل هذه اللحظات الحرجة. وعلى المستوى الانساني السيكولوجي ورغم الهلع الذي رافق انتشار الفيروس في ايامه الأولى ، فقد دفعت الإنسان للتأمل ومراجعة الذات و ادراك قيمة مفاهيم عدة من قبيل الوقت والحرية والاسرة والقيم الروحية.
بكلمة، ان تفشي هذا الفيروس لم يؤدي إِلى التباعد الاجتماعي بين الافراد فحسب ، بل ولّد حالة من التباعد الايديولوجي و السياسي بين الأمم. في تقديرنا، ما اصبح ملحا اليوم وأكثر من اي وقت مضى هو ليس الانكباب على التناقضات الايديولوجية بين الدول والشعوب. التحدي الاكبر يتمثل في إعادة التأسيس للإحساس بالذات الجماعية ونهج مقاربة تعاونية تشاركية من طرف الجميع ولأجل الجميع لمحاربة العدو المشترك للبشرية كوفيد-19.