لطالما كنا صغارا يسألنا الناس ماذا تود أن تصبح مستقبلا؟ ولكل واحد منا حلم ،فالأول يقول :أنا أريد أن أصبح طبيبا ، والآخر يود أن يكون ربان طائرة، أما أنا فقد وددت أن أصبح أستاذ رياضيات أو مهندسا،فشاءت الأقدار أن تحقق الاختيار الأول،و أصبح الحلم حقيقة .
هذا الحلم البريء في صغري جاء انطلاقا من عدة أسباب لعل أبرزها كون عائلتي توارثت مهنة التعليم أبا عن جد،أما السبب الثاني فيتمثل في كون مهنة التعليم مهنة شريفة وأصل كل المهن.
آه وأنا أحترم المعلم في صغري قبل كبري،وأرى الهيبة في نظراته، وما زلت أتذكر النص الشعري الذي قرأته في السنة الخامسة ابتدائي لأمير الشعراء “أحمد شوقي “الذي يتحدث عن مكانة المعلم في المجتمع:
قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا
كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي
يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا
سـبحانكَ اللهمَّ خـيرَ معـلّمٍ
علَّمتَ بالقلمِ القـرونَ الأولى
أخرجـتَ هذا العقلَ من ظلماته
ِوهديتَهُ النـورَ المبينَ سـبيلا
وطبعتَـهُ بِيَدِ المعلّـمِ ، تـارةً
صديء الحديدِ ، وتارةً مصقولا
أرسلتَ بالتـوراةِ موسى مُرشد
وابنَ البتـولِ فعلَّمَ الإنجيـلا
وفجـرتَ ينبـوعَ البيانِ محمّد
فسقى الحديثَ وناولَ التنزيلا
علَّمْـتَ يوناناً ومصر فزالـتا
عن كلّ شـمسٍ ما تريد أفولا
واليوم أصبحنـا بحـالِ طفولـةٍ
في العِلْمِ تلتمسانه تطفيـلا
من مشرقِ الأرضِ الشموسُ تظاهرتْ
ما بالُ مغربها عليه أُدِيـلا
يا أرضُ مذ فقدَ المعلّـمُ نفسَه
بين الشموسِ وبين شرقك حِيلا
ذهبَ الذينَ حموا حقيقـةَ عِلمهم
واستعذبوا فيها العذاب وبيلا
في عالَـمٍ صحبَ الحيـاةَ مُقيّداً
بالفردِ ، مخزوماً بـه ، مغلولا
صرعتْهُ دنيـا المستبدّ كما هَوَتْ
من ضربةِ الشمس الرؤوس ذهولا
كنت أتعجب كثيرا في البيت الثاني “كاد المعلم أن يكون رسولا” ، وكنت شغوفا و مهووسا بالمعرفة والاستكشاف، فبحثت عن مغزى هذا البيت فوجدت ما يلي:
المغزى الأول:
أن المراد هنا ليس حقيقة الرسالة والنبوة ، التي بعثها بها الأنبياء ، وختمها محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن هذا لا مدخل فيه لسعي العبد ، بل هي اجتباء واصطفاء من الله جل جلاله ، للمكرمين من خلقه ، وهي قد ختمت ، ولم يبق أحد ينالها ، أو يطمع فيها .
وإنما المعلم – هنا – : رسول بالمعنى المجازي، لأنه يحمل رسالة العلم والأخلاق، وكل من يحمل هذه الرسالة فهو رسول بهذا المعنى، يحمل رسالة العلم ، وأمانة الأجيال على عاتقه .
ومع أن فيهم الصالح والطالح ، والخيِّر والشِّرِّير ؛ فإن “المخصوص” بهذا المدح : إنما هو معلم الناس الخير والحق، كما في القصيدة نفسها : “يبني وينشئ أنفسا وعقولا”.وهذا هو الذي يسلك بالجيل ، على طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .
المغزى الثاني :
استعمال فعل التقريب “كاد” يعني أن المعلم لم يبلغ مرتبة رسول الله، ولكنه لعظم مكانته شبهه بمن يقرب من مكانهم ، لو كان ذلك ينال بالقرب والسعي ؛ إذا لناله معلم الخير . كما قال عليه الصلاة والسلام: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَ بِهِ، أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) رواه أحمد في “المسند”
المغزى الثالث:
أننا وجدنا في أقوال العلماء ما يقترب من هذه المعاني، ومن ذلك مثلا قول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: “من قرأ القرآن فكأنما استُدرجت النبوة بين جنبيه، إلا أنه لا يوحى إليه” رواه ابن أبي شيبة في “المصنف” .
وهذا كلام واضح في تشبيه مكانة قارئ القرآن بمكانة أنبياء الله؛ بجامع معرفة كلام الله الذي هو القاسم المشترك في هذه المكانة العظيمة، ولكن مع ملاحظة الفارق الكبير أيضا، وهو مكانة الوحي المنزل من السماء، التي يحظى بها النبي والرسول، ولا تكون لغيرهم من الناس ، مهما علت منزلته.
والشاهد هنا هو التشبيه والتقريب الذي استعمله عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قريب جدا من تشبيه أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله.
وأدركت فعلا مغزى هذا البيت وزاد ولعي وكبرت محبتي للمعلم لأنه يمتلك أعظم مهنة ، إذ تتخرج على يديه جميع المهن الأخرى.فلا طبيب و لا مهندس بدون المعلم.
المعلم ناسك انقطع لخدمة العلم كما انقطع الناسك لخدمة الدين. فأنا مدين لوالدي لأنه أمّن لي الحياة، ومدين لمعلمي لأنّه أمن لي الحياة الجديدة. فكيف إن كان والدك معلمك ،أتذكره حين درست عنده في المستوى الثاني ابتدائي كان صارما وحازما في القسم ،لم اعتده هكذا في المنزل ،فكان يقول لي بالحرف “أنا والدك في المنزل ،ومعلمك في القسم”. فأدركت مغزى الحكمة الشهيرة “لكل مقام مقال”،فالقسم ليس هو البيت،و لكل واحد منهما مقال مختلف.
إنّ دور المعلم الرئيسي هو تربية وتهذيب الطلاب فهذا هو أساس تلقي العلم، فيجب أن يشرح المعلم للطلاب أهمية العلم ويهذِّب أخلاقهم و يربيهم و يوضح لهم دوره في حياتهم، لأنّ ذلك ما يهيئ الطلاب إلى استقبال العلم بشكل إيجابي.فغالبا كنت أسمع من أساتذتي الأفاضل هاته الجملة: “التربية قبل التعليم”. فلا يقتصر دور المعلم على المجال الأكاديمي فقط فمن الضروري أن يحرك همتهم ويطبق ما يدرسونه على أرض الواقع لكي ينمي مهاراتهم وقدرتهم على الإبداع، وذلك من خلال إشراكهم بالمسرحيات التاريخية أو المسابقات الثقافية التي تزيد من فهمهم للمواد أكثر.
فمهما كتبت فلن أوف للمعلم حقه ،وأختم مقالي بهذه الرسالة :
إلى كل من علموني ودرسوني أقول لكم “منكم تعلمنا أن للنجاح أسرارا، ومنكم تعلمنا أن المستحيل يتحقق في دراستنا، ومنكم تعلمنا أن الأفكار الملهمة تحتاج لمن يغرسها في عقولنا، فلكم الشكر على نصائحكم القيمة وجهودكم المضنية،فأنتم أهل للشكر والتقدير، فنحن على الدرب سائرون، فأنتم السابقون ونحن اللاحقون “.
مقال جميييل، استمتعت بقراءته صراحة، سلمت أناملك أخي.
مقاربة رائعة وبداية جد موفقة حفظك الله . واصل