محمد النجاري
ينبئ شح التساقطات المطرية وتأخرها هذه السنة بموسم فلاحي صعب، تنعكس عواقبه على الاقتصاد المغربي، الذي يعول بدرجة كبيرة على الفلاحة، كما تنعكس عواقبه على الفلاح، خاصة الفلاح الصغير، إضافة إلى المستهلك الذي يبقى عرضة إلى غلاء أسعار المنتجات الفلاحية بسبب عدم وفرة المحصول، وقد يمتد تأثير الجفاف إلى أسعار المواشي خاصة في فترة عيد الأضحى.
من خلال هذا التقرير نحاول رصد أهم الأضرار التي يمكن أن تترتب عن استمرار انحباس الأمطار، على المستويات الثلاثة؛ الاقتصاد، والفلاح، والمستهلك.
الفلاحة ركيزة الاقتصاد المغربي
يعتمد الاقتصاد المغربي على الفلاحة كركيزة أساسية، إذ تحتل مقدمة أولويات البلاد، وتبلغ المساحة الفلاحية في المغرب ربع المساحة الإجمالية، وتتكون المحاصيل الرئيسة من الحبوب والقطاني، والحوامض والزيتون وأشجار الفواكه المزهرة، والمحاصيل السكرية، ناهيك عن تربية الماشية، لكن المردودية الفلاحية بالمغرب، تبقى رهينة التساقطات المطرية، إذ إن التساقطات هي المحدد لوفرة المنتوج أو شحه، وبالتالي فهي المحدد لمدى لجوء المغرب للاستيراد تغطية لحاجيات السوق الوطنية خاصة من القمح.
ولا يغطي الإنتاج الوطني من القمح حاجيات السوق، إذ يلجأ المغرب سنويا إلى استيراد القمح لتغطية حاجيات الاستهلاك الداخلي، بما في ذلك المواسم التي تعرف إنتاجا قياسيا، ويستورد المغرب سنويا ما بين 60 و75 مليون قنطار من الحبوب من الخارج، لسد الخصاص.
كما يساهم القطاع الفلاحي في المغرب بأزيد من 14 في المائة من الناتج الداخلي الخام، ويبقى مؤشر النمو الاقتصادي بالبلاد رهنا بحجم التساقطات والمردودية الفلاحية، إذ كلما كان المحصول الفلاحي وفيرا كلما انعكس ذلك بالإيجاب على هذا المؤشر، وتراهن الحكومة هذه السنة على أن يصل النمو إلى 3.7 في المائة، بعدما لم يحقق في سنة 2019 سوى نسبة 2.3 في المائة، لكن الوضع الفلاحي اليوم مع غياب التساقطات متأزم، ما يجعل المغرب في موقف صعب، ويجعل تحقيق هذا النمو بعيد المنال.
ويخلق قطاع الفلاحة فرص شغل مهمة، فهو ثاني قطاع مشغّل بعد قطاع الخدمات، وتبلغ نسبة من يعيشون من الفلاحة 40 في المائة من السكان، كما أن الأنشطة الفلاحية تساهم في تثبيت الساكنة القروية، والتقليص من الهجرة صوب المدن، لكن الجفاف وعبر السنوات كان من أهم الأسباب التي تؤدي بالأسر في القرى إلى شد الرحال صوب المدن، فالفلاح الصغير يظل دائما أكثر المتضررين من موجات الجفاف، فهو يعتمد على الزراعة المعيشية التي تهلك بسبب غياب التساقطات، وزيادة على ذلك فإن الجفاف يؤدي إلى غياب الكلأ وارتفاع سعر الأعلاف، ما يثقل كاهل الكسابة.
الجفاف مشكل بنيوي يضر الاقتصاد الوطني
وفي تفاعله مع الموضوع، اعتبر المهدي فقير، المحلل الاقتصادي أن الإشكال الحقيقي يعود في الأساس إلى طريقة التعامل مع تأخر التساقطات، والذي يعتبر مشكلا مناخيا قديما وليس بجديد في بلد فلاحي، لكن السياسات العمومية في المغرب، حسب فقير، لم تخرج عن النمطية في التعامل مع هذه الظاهرة، حيث لايزال التعامل مع إشكال التساقطات كإشكال ظرفي وليس كإشكال بنيوي، وبالتالي ننتظر دائما تدخل الدولة في هذا الوضع.
وقال فقير، إن الحل هو أن تتعامل الدولة مع الجفاف وتأخر التساقطات باعتباره مشكلا بنيويا، وأن تعيد هيكلة سياستها بحيث تكون موجهة لفلاحة ذات طابع احترافي بعيدا عن كل التقلبات المناخية، محذرا من أن الاستمرار في التعامل مع الأمر بهذا الشكل سيؤدي إلى حصول كارثة وطنية على غرار ما حصل سنة 1994، حيث أثرت السنوات العجاف التي عرفها المغرب بشكل كبير على الاقتصاد الوطني.
وأبرز أستاذ الاقتصاد الدور الكبير الذي تلعبه التساقطات في التأثير على نسبة النمو، مشيرا إلى أن سنة 2016 كانت سنة جفاف وقد انخفضت نسبة النمو إلى 1.2 في المائة، في حين كانت سنة 2017 سنة معطاءة حيث ارتفعت نسبة النمو إلى 4.7 في المائة، ما يظهر التأثير الكبير للتساقطات على نسبة النمو وبالتالي على الاقتصاد، ما ينعكس على كل من المواطن والفاعلين الاقتصاديين.
وشدد المحلل الاقتصادي على أنه ينبغي أخذ العبر من دروس الماضي، مضيفا أنه لا يمكن بناء اقتصاد بنسب نمو تعتمد كثيرا على التساقطات، فهذا خلل هيكلي وجب التعامل معه بشكل بنيوي.
وتوقع الخبير الاقتصادي أنه من الصعب أن يتمكن المغرب من تحقيق نسبة النمو التي تتوقعها الحكومة، والمحددة في 3.7 في المائة، أخذا بعين الاعتبار الجفاف إضافة الظرفية الدولية التي تتميز بصعوبات اقتصادية، لكن لا يمكن الحسم في نسبة النمو، ووجب انتظار معرفة حجم الإنتاج الوطني من قنطار.
وختم فقير بأن المغرب يعرف أوراشا ومجهودات كبيرة، لكنها تبقى غير كافية للتغلب على الصعوبات الهيكلية التي يعاني منها الاقتصاد الوطني.
الفلاح أكبر المتضررين من تأخر الغيث
يؤثر تأخر التساقطات المطرية وشحها على الفلاح تأثيرا مباشرا، وذلك عبر عدة مستويات، فالمحاصيل تتلف، والكلأ يقل وترتفع أثمنة الأعلاف، ما يضطره إلى بيع قطيعه بثمن يقل عن قيمته الحقيقية، كما ينعكس ذلك عليه من عدة جوانب اقتصادية، كعسر إعادة أقساط السلف، دون أن ننسى أن الجفاف يتسبب في عطالة الكثير من العمال الفلاحيين…
وحول نسبة ضياع المحاصيل الزراعية، يقول رضوان الشاقوري، رئيس التعاونيات الفلاحية بإقليم بنسليمان، إن هناك تضررا كبيرا في المحاصيل الزراعية على الصعيد الوطني عامة، ويصل حجم التضرر في إقليم بنسليمان إلى ما يزيد عن 70 في المائة، وهو نفس الأمر بالنسبة لأقاليم جهة الدار البيضاء سطات، حيث إن هذا الضرر لا يمكن إصلاحه حتى إذا تساقطت الأمطار.
وأضاف الشاقوري، أن على الدولة أن تحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، من خلال مساعدة الفلاح وتوفير الأعلاف المركبة والشعير المدعم، وتزويدهم بالماء للماشية، فالفرشة المائية منخفضة، والسدود ليست مملوءة، وبعض المناطق كإقليم بنسليمان لا تتوفر على فرشاة مائية كبيرة.
وأكد الشاقوري على ضرورة توفير الدولة لديون مستعجلة لإنقاذ الماشية، فالفلاح في حاجة إلى العلف الذي يزداد ثمنه، كما أن هذا الوضع يفرض أن تكون هناك برامج استثنائية واستعجالية، وليس فقط الاستثناء وتعطيل المسطرة.
وأضاف المتحدث أن الفلاح استثمر محصول السنة الماضية في زراعة الأرض وتهييئها، وأخذ ديونا على أساس ردها مع موسم الحصاد، لكن لا يوجد ما يحصده هذه السنة، ورغم ذلك فإنه مضطر إلى أداء ديونه إلى القرض الفلاحي، ما يجعله في وضع صعب، إذ لم يبق له مصدر لأداء ما على عاتقه من ديون، ما يفرض وضع تسهيلات له.
وحذّر المتحدث أن أزمة العلف تهدد الثروة الحيوانية في المغرب، فالفلاح إن لم يتم توفير العلف له، سيضطر لبيع قطيعه من البقر الحلوب ما يهدد الثروة الحيوانية، ويهدد كل المجهود الذي بدله المغرب لما يزيد عن 10 سنوات، حيث استورد البقر من الخارج وأصبح ينتج في الداخل عجولا من الصنف الأصيل، لكن الفلاح إن اضطر لبيع هذه القطعان، فكأن شيئا لم يكن.
كما لفت رئيس التعاونيات الفلاحية ببنسليمان إلى عائق، آخر يتمثل في تأخير المديرية الإقليمية للفلاحة الموافقات المبدئية من أجل التسريع بالسقي بالتنقيط، ما يعطل عددا من الفلاحة.
وبالنسبة لفرص الشغل التي يخلقها القطاع، فقد أكد الشاقوري أن قلة التساقطات هذه السنة، قد انعكست على اليد العاملة، وعلى تشغيل الشباب، إذ إن الشباب الذي اعتاد أن يشتغل في الضيعات الفلاحية في مثل هذه الفترة من الموسم، لم يجد عملا، نظرا لتضرر الضيعات الفلاحية.
وفي نفس السياق، أكد عبد الرحمن مجدوبي، رئيس الجمعية الوطنية لمربي الأغنام والماعز، أن وضعية الكسابة مزرية، وحالتهم صعبة، خاصة وأن مشكل التساقطات يشمل الصعيد الوطني، مضيفا أنه إذا استمر انحباس المطر فإن تضرر الفلاحة سيزيد، وبالتالي لن يكون هناك “تبن” حتى في السنة المقبلة، ما سيشكل مشكلا حقيقيا.
وأشار مجدوبي في حديثه إلى أن وزارة الفلاحة تبذل مجهودا، حيث ستخرج مليونين ونصف مليون قنطار من الشعير المدعم خلال الثلاثة أشهر المقبلة، ما سيخفف قليلا، وسيساهم في استقرار السوق، لكن المشكل لن يحل إلا بالتساقطات، لافتا في نفس الوقت إلى أن بعض الكسابة الصغار ليس لديهم المال لاقتناء العلف المدعم مهما انخفض ثمنه.
وأضاف رئيس الجمعية أن قانون السوق يفرض أنه عندما يكون الجفاف ويقل الكلأ، فإن الكساب يضطر لبيع ماشيته، وعندما يكثر العرض فإن الثمن يكون في الحضيض، خاصة وأن الجزارة بدورهم يشتكون من قلة البيع، رغم أنهم في بعض المناطق يبيعون اللحم بثمن 75 درههم، وهو ضعف الثمن الذي اقتنوه به.
قلة العرض وارتفاع الأسعار يضر المستهلك
بدوره، لا يسلم المستهلك من تبعات تأخر التساقطات والجفاف، حيث إن قلة عرض المنتجات الفلاحية يؤدي إلى زيادة الأسعار، ما يستهدف بشكل مباشر جيوب المواطنين، كما أن التبعات من وراء هذا الوضع المناخي ترخي بظلالها على جوانب أخرى.
بوعزة الخراطي، رئيس الجامعة المغربية لحقوق المستهلك، يشير إلى أن من تبعات تأخر التساقطات عدم تواجد المواد الفلاحية في السوق، إضافة إلى أن القمح المغربي لن يكون متوفرا، وستضطر الدولة إلى اقتناء القمح من الخارج لتسد به حاجيات السوق الوطنية، لكن ارتفاع ثمنه في السوق الخارجية سيضطرها لشرائه بثمن غال، وبالتالي ستبيعه للمستهلك بثمن مرتفع أيضا.
وأضاف الخراطي أن قلة العلف، وتردي جودته في بعض الأحيان، ينتج عنه تردّ في جودة اللحوم التي يستهلكها المغاربة.
وأشار المتحدث إلى أن نظام السوق العالمي، يفرض ارتفاع الأثمنة كلما ارتفع الطلب، لافتا إلى أن المغرب قد عرف أزمات في بعض المواد الفلاحية، حيث إن الجفاف في المناطق المنتجة لمنتوج فلاحي ما، يؤدي إلى قلة توفره في السوق وبالتالي غلائه.
وقد تسبب تأخر التساقطات، حسب الخراطي في ركود تجاري، لأن المستهلك لا يشتري، ويرجع ذلك إلى أن التساقطات المطرية تؤدي إلى الحركية، إذ يخرج الفلاح النقود، وتنشط الحركة الاقتصادية، أما في ظل غياب التساقطات فإن الفلاح يوثر أن يحتفظ بما لدية من نقود، خاصة وأنه قد صرف جل ما يملك على أرضه، وهو ما يخلق ركودا اقتصاديا يتأثر به الجميع بما في ذلك المستهلك.
ولفت الخراطي إلى أن المغرب يعرف شبه دورات الجفاف، ما يفرض عليه تدبير المياه وتوفير الماء الصالح للشرب وللفلاحة، خاصة وأن جل ماء المطر يذهب في البحر، في وقت تُلزم فيه بعض الدول أي بناية جديدة بتوفير خزان لماء المطر، لسقي الحدائق، وتنشئ قنوات خاصة لتجميع هذا الماء كي لا يذهب في قنوات الصرف الصحي، إضافة إلى أن شاحنات تتكفل بجمع الماء من الشوارع وتضعه في الخزان، فالماء اليوم هو الذهب الأزرق، والمطر هو الأساس الحقيقي للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في المغرب.