هشام حمدي
عرف أفلاطون في كتابه (السياسة) بأنها فن تحقيق الجمال والإتقان من الأنسجة في كل مدينة بما فيها من شعب بعبيده ورجاله الأحرار، وهي تخدمهم كل في إطاره حتى تضمن القيادة والحكم وتؤمن الاستمتاع بالسعادة داخل المدينة. ويعرف أرسطو السياسة من خلال مؤلفه (الأخلاق أو إيلانيكوماخوس) بأنها علم ذو سيادة، وبما أنها تستخدم العلوم العملية الأخر بالإضافة إلى أنها تشرع لما ينبغي فعله وما يجب الامتناع عنه، فإن هدف هذا العلم سوف يشمل أهداف العلوم الأخرى؛ فسيكون نتاج ذلك أن هدفها هو مصلحة وصالح البشر؛ ليس كل شيء سياسة ولكن السياسة تهتم بكل شيء كما جاء في كتاب (الأمير) لنيقولا مكيافيلي. وقال عنها فولتير بأنها فن الخداع { la politique c’est l’art de tromper } ويضيف بأن السياسيين وبحكم مناصبهم أو مواهبهم، يؤثِّرون في الأفراد والجماعات. إن السياسة علم الحكم والتحكم في وبالإنسان من المهد إلى اللحد، ووحدهم الحصفاء النبهاء من العقلاء من يتولاه.
البعض يصف العلوم السياسة بأنها من بين أدق العلوم الإنسانية، وأشد الناس بلاء من يعانيها. ورب سياسي انصرف إلى ناخبيه ومناضلي حزبه سنوات عديدة ولم يَفلح، وقد يوفق أحيانا في أمر واحد طوال مسيرته السياسية، فيخدم بها دائرته الانتخابية بما عجزت عنه قوى المجتمع المدني قاطبة. والنابغون النبهاء الحصفاء في الحقل السياسي قلة. وحاجة الوطن إلى السياسة كحاجته إلى الهواء والماء، وإذا فرضنا أن معدل رجال الأعمال يزداد في الحقل الاقتصادي فإنه في الحقل السياسي في تراجع مقلق.
على السياسي أن يملك عينا باصرة وأذنا مرهفة سامعة ويتحلى بذاكرة واعية لمعالجة المشاكل، هي خصائص متى جمعت واجتمعت في فرد-مواطن عُدَّ من المحظوظين والمنعمين على وطنه. السياسي يولد مع الأحداث والحوادث وتنقذه الكوارث، ويستفيد منها أكثر من كتب الخطابات وتصفح المواقع والسجلات والجرائد. وتجد السياسي في الحكومات الديموقراطية كما في الحكومات الاستبدادية، ولسانه أكثر طلاقة وفصاحة في حكم ديمقراطي حر.
في السياسة يتم ترجيح كفة الشيوخ، ومرد ذلك تميزهم بالتجارب وتجرد عن النزوات والشهوات “للأسف واقع الحال يخبرنا عكس ذلك”. السياسي مثل التاجر لا يغامر ولا يخاطر ولا يسيء لوديعة الحق، وإذا اختلطت السياسة بالدين فهي قطعا ستخرجه عن قصده، وإذا وجدت طريقا إلى العلم والإدارة فهي جزما ستعبث وسيقع الخلل.
من الندرة أن تصادف شخصية تاريخية وتراثية أحرزت ونالت ووصفت بالسياسي، حتى الامبراطوريات والملكيات والجمهوريات الحديثة تنشئ في الزمان بعد عصره أفرادا معدودين من العيار السياسي الصحيح منهم. ولقد كان الساسة عند الغرب منذ العصور القروسطية أكثر من العرب إبان تقهقرهم، وما غلب ملوك قشتالة وأراغون ملوك الأندلس إلا لتفوقهم الكبير في السياسة، ولو كان ملوك الأندلس محنكون سياسيا ما انتهى مآلهم المفجع والموجع إلى ما آل إليه.
نامت السياسة في المغرب جيلا كاملا، وأصبح جل من ينتخبون من طبقة النفعيين، ممن تهمهم المصالح والمصانع قبل أي شيء، ولا يعرفون السياسة إلا في دعائهم ومواعظهم، الساسة عندنا هواة ومبتدئون، ولا يمكن الطلب من المبتدئ اللحاق بركب من سبقوه. والغرب تفوق بالسياسة بسبب توفر شروط أسبابها لديهم، وأهم ما يعوز السياسة عندنا السيادة الرقمية والحدودية وسيادة حرية اتخاذ القرار فالسياسي لا يعرف إلا إذا مُتِّع وتمتع بالحرية.
المعلوم من الفقه بالضرورة أن السياسة في عرف الإسلامويين كذب كلها، وهو حكم غير ظالم لأن رئيس الحكومة ينتحل من منابذة الصدق في خلوته وجلوته ومن خلاله حزبه، حتى لتخاله جامع أكاذيب، وقد أسقط من عيون الأفراد-المواطنين لضعف ثقافته، وانحلال أخلاق وزرائه، وأسقط من قيمة أَغلى وأعلى عمل يقدمه رئيس حكومة لوطنه. ومن الغريب أنه كلما زاد رئيس الحكومة ووزرائه في التلاعب، وكل ما استراح إلى نصب فخاخ الزيادة في الأسعار والضرائب، أكبره قطيعه بأضخم الألقاب، وهم بفعل الإعجاب به هذا، لا يختلفون عن إعجاب أصحاب وأرباب الغَباء فيمن قتلوا المغاربة سواء كانوا فاتحين أو مستعمرين.
العمل الميداني هو المحك الحقيقي الذي يمكننا من معرفة والتعرف على السياسي الذي يجب عليه جعل كلامه قوة فاعلة وفعالة يصرفها في خدمة الأفراد-المواطنين والمصلحة العامة.
ويختلف { le politicien -Le politique } اختلاف الليل عن النهار، فالسياسي المحترف هو الذي يتخذ السياسة مهنة يعيش منها وغايته من السياسة غنائمها ومغانمها وهي وسيلة استثمارها للثراء الغير المشروع وبسط الجاه، ولا تعنيه المصلحة العامة، أناني ولا يهتم لغيره، ولا يريد إلا إرضاء شهواته ونزواته و لكم في وزراء حكومة إخوة يوسف إسوة سيئة، حتى إذا فازوا بتقاعد مريح اغتبطوا وحسبوه سدرة المنتهى والغايات. وأما السياسي الحق فلا يشبه المحترف للسياسة إلا كما يشبه الممثل الفاشل الرجل الفنان. للسياسي الحق يقوم بعمله وواجبه ولديه خطط وبرامج وللسياسي المزيف يهرف بما يعرف من خدع وذرائع فقهية ولكن البسطاء من الفقراء لا يميزون بينهم. السياسي ربما يحتاج في بعض الأحوال إلى خونة مكرة ومنعدمي الشرف والضمير لأن الصلاح لا ينفع المُواطن ولا يصلح في جميع المَواطن. الثبات على الرأي لم و لن يكن شرطا في السياسي لأن لا شيء ثابت في السياسة عدا التغيير في الزمان والآراء والأحوال المستعجلة، فالرأي قابل للتحول، وما من شيء هو على مطلقه وإطلاقه في السياسة، ويغير السياسي رأيه لكن دون خروج عن قواعد وقانون اللعبة، والعار كل العار في إبداء الرأي وطرح البديل ليس خدمة للأفراد-المواطنين ولكن لحاجة في نفس حكومة إخوة يوسف التي تجلب لهم ولعائلاتهم ومقربيهم والأوفياء من قطيعهم الغنائم والمغانم وهذا انتقال من اللون الواحد ليصير متعدد الألوان.
أخيرا، يصعب الحفاظ على التقوى والفضيلة والأخلاق عند الانغماس في السياسة كما يقول ماكس فيبر لكن الصعوبة تزداد عند المتدينين عبر المظهر حين تقول لهم أن جوهر المشاكل هو إقصاء وإبعاد المرأة عن النشاطات السياسية والقول بوضعها بين جدران المنزل. أنا على ثقة أن المرأة المغربية لو أتيحت لها رئاسة الحكومة ستكون مثل الرجل. ربما ستصنع سياسة مختلفة، سياسة أفضل من السياسات التي يصنعها الرجال كما قال لودفيغ فيورباخ
الإنسانية هي الحل