كان يوم 18 دجنبر الجاري- كما هو معروف- يوماً عالمياً للّغة العربية، يُحتفى بها في هذا اليوم من كل سنة، كلغة عالمية، رسميّة، متداولة، ومُستعملة في جميع المحافل الدّولية، ولم يأتِ هذا التتويج عبثاً أو اعتباطاً؛ بل جاء بعد نضالٍ متواصل، وجهودٍ متوالية انطلقت منذ أواسط القرن الفارط، بعد أن أقرّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونيسكو) ذلك في الدورة الثانية والتسعين لمجلسها التنفيذي المنعقد عام 2012، حيث طفق هذا المحفل الدّولي في الاحتفال لأوّل مرّة بهذا اليوم في ذلك العام، قبل أن تقرّر الملحقية الاستشارية للخطة الدّولية لتنمية الثقافة العربية المعروفة بـ(أرابيا) المنبثقة عن “اليونيسكو” هذا اليوم عنصراً أساسيّاً في برنامج عملها المتواتر في هذا المجال.
ويشير الخبراءُ المتخصّصون في هذا الميدان إلى أنّ قرار “اليونيسكو” جاء في سياق سلسلة من القرارات الدولية الأخرى للأمم المتحدة، ومنظماتها حول اللغة العربية؛ من بينها القرار (878) الصّادر عن الدّورة التاسعة للأمم المتحدة المنعقدة عام 1954، والذي كان قد أجاز الترجمة التحريرية لوثائقها إلى اللغة العربية، لتقرّر منظمة “اليونيسكو” العالمية عام 1966 استخدامَ اللغة العربية في المؤتمرات الإقليمية التي تُنظم في البلاد العربية، بالإضافة إلى إجازة المنظمة ترجمة الوثائق والمنشورات الصّادرة والمنبثقة عنها إلى اللغة العربية، ثم قرّرت “اليونيسكو” كذلك في هذه السّنة نفسها تقوية وتعزيز استعمال العربيّة في أعمالها من خلال إقرار خدمات التّرجمة الفورية من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات الأخرى والعكس في جلساتها العامة.
وعند مشارف عام 1968، تمّ اعتماد العربية لغة عملٍ في هذه المنظمة الدولية، مع ترجمة مختلف وثائق العمل، وكذلك المحاضر إليها، فضلاً عن توفير وتأمين الترجمة الفورية بصفة نهائية… وهكذا حتى نصل إلى قرار الهيئة العامة للأمم المتحدة بجعل اللغة العربية لغة عمل بصفةٍ رسمية بين مختلف اللغات الحيّة الأخرى المعتمدة في الجمعية العامة وهيئاتها المختلفة، وأخيراً الإعلان عن اليوم العالمي لهذه اللغة في الثامن عشر من شهر دجنبر من كل عام كلغة رسمية متداولة في مختلف الهيئات والمنظمات والمحافل الدّولية.
وما زالت تتوالى الدّراسات، وتتعدّد النقاشات، وتُطرح التساؤلات، والتخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب علوم الحداثة والعصرنة والابتكار والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاته ولا تني، وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمذهل.. كما تحمّس بالمقابل فريق آخر، فأبرز إمكانات هذه اللغة وطاقاتها الكبرى، مستشهداً بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً…
كثر الكلام في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس والمنتديات والمؤتمرات في مختلف البلدان العربية، فهل تعاني العربيّة حقا من هذا النقص؟ وهل تعيش نوعاً من العزلة إلى درجة أنّها في حاجة إلى حماية ودفاع ومناقشات من هذا القبيل؟ الواقع أنّ اللغة العربية في العمق ليست في حاجة إلى ارتداء ذرع الوقاية يحميها هجمات الكائدين، ويردّ عنها شماتة التخوّفين، إذ تؤكّد كلّ الدلائل والقرائن قديماً وحديثاً أنّ هذه اللغة كانت ولا تزال لغة حيّة، اللهمّ ما يريد أن يلحق بها بعض المتشكّكين من نعوت وعيوب كانت قد أثارتها في الأصل زمرة من المستشرقين في منتصف القرن المنصرم، حيث اختلقوا موضوعات لم يكن لها وجود قبلهم، وما كانت لتعدّ مشاكل أو نواقص تحول دون الخلق والتأليف والإبداع، وإنما كان الغرض من ذلك إثارة البلبلة بين أبناء هذه اللغة وبثّ الشكوك فيما بينهم حيالها، وهم أنفسهم يعرفون جيّدا أنّها لغة تتوفّر على جميع مقوّمات اللغات الحيّة المتطوّرة الصّالحة لكل عصر، ثمّ هم فعلوا ذلك متوخّين إحلال محلّها لغةَ المستعمِر الدخيل، ومن المشاكل المفتعلة التي أثيرت في هذا المضمار: الحرف، والنحو، والشكل، والعاميّة والفصحى.
حروف الضّاد
أمّا بالنسبة إلى الحرف العربي ومعه الخطّ – الذي احتفلت “اليونيسكو” بهذه المناسبة بجماليته، وطواعيته، وفنيته، وإبداعاته- فقد تعدّدت نداءات محاولات إصلاحه وتحسينه؛ ولكنّها باءت بالفشل الذريع، وظلّت الغلبة للأشكال المتوارثة التي كتبت بها عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الميادين العلميّة والفلسفية والأدبية… وسواها، زعموا أنّ شكل الحرف العربي الرّاهن وتركيبه لا يتّفق مع العصر، وأنّ رصف صفحة بالخط الفرنجي يعادل في الزّمن رصف صفحتين بالخط العربي لتزايد عيون الحرف العربي التي تتعدّد وتتغيّر بتغيير مواقعها في الأوّل أو الوسط أو الأخير وهكذا… فقدّم لنا بعضُ الباحثين أشكالاً متباينة لخطّ جديد تشبه إلى حدّ بعيد رسوم الخط الفرنجي؛ غير أنّ القارئ يكتشف، منذ الوهلة الأولى، أنها في غالبيتها أشكال غريبة عليه يمجّها ذوقه السليم، بل إنها في بعض الأحيان تكلّفه عناء شديدا في هجاء حرف واحد منها..
والحقيقة أنّ جمالية الخط العربي أو حرفه لا تبارى، فقد ثبت الآن أنه حرف مثالي في جمال تكوينه وشكله وتنوّعه والتوائه واستوائه وتعريجاته واختصاره، ثم إن تطوّر واستعمال الحواسيب الإلكترونية المتطوّرة الحديثة تتّجه سريعاً نحو أساليب جديدة مبتكرة للكتابة، ومعنى ذلك هو العدول بالتدريج عن أسلوب الرصف الحرفي واختصار القوالب..
وقد توصّل بعض العلماء إلى ابتكار رسوم حديثة للحرف العربي لا تخرجه عن شكله، ولا تبعده عن أصله ومع استعمال الكومبيوتر واحتضانه، وانتشاره وقبوله للحرف العربي بسهولة ويُسر بنجاح باهر وبنتيجة مُذهلة سقطت دعوى الداعين إلى استبداله بالحروف اللاتينية، وبذلك يفقد خصوم هذه اللغة هذه المعركة.
حقّا، إنه لمن السّخف أن نجد بين ظهرانينا من تسمح لهم أنفسهم بالدعوة إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، متّخذين ممّا ابتدعه مصطفى أتاتورك للّغة التركية مثالا يُحتذى، وكذلك بدعوى السهولة واليسر وضبط الكتابة وإبراز حركات الحروف.. وهذه الدعوى باطلة من أساسها، تحمّس لها بعض خصوم هذه اللغة عرباً كانوا أم أجانب. ومن بين المفكرين الذين كانوا قد تحمّسوا لهذه الدعوى ذوي الثقل الخاص في القرن الماضي الكاتب سلامة موسى في مصر، الذي دافع عن هذه الفكرة وقدّم تبريرات ومقترحات في شأنها، يقول في ذلك: “هذا السّخط الذي يتولانا كلما فكّرنا في حالنا الثقافية وتعطيل هذه اللغة لنا عن الرقيّ الثقافي، تزيد حدّته كلما فكّرنا وأدّى بنا التفكير إلى اليقين بأن إصلاحها مستطاع، والقلق عام ولكنّ الجبن عن الابتكار أعمّ. ولذلك، قلّما نجد الشجاعة للدّعوة إلى الإصلاح الجريء إلاّ في رجال نابهين لا يبالون بالجهلة والحمقى مثل قاسم أمين أو أحمد أمين في الدعوة إلى إلغاء الإعراب، ومثل عبد العزيز فهمي حيث يدعو إلى الخطّ اللاتيني وهو وثبة المستقبل لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التي أغلق عليها هذا الخطّ أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها”.
ولقد قدّم سلامة موسى بعض المقترحات نجملها فيما يلي: “الحاجة إلى إلغاء الإعراب، وميزاته أوّلا: الاقتراب من التوحيد البشري لأنه وسيلة للقراءة والكتابة عند الذين يملكون الصناعة، أيّ العلم والقوّة والمستقبل. وهذا الخط تأخذ به الأمم التي ترغب في التجدّد كما فعلت تركيا، ومن المرجّح أن يعمّ هذا الخط العالم كله تقريبا. ثانيا: حين نصطنع الخط اللاتيني يزول هذا الانفصال النفسي الذي أحدثته هاتان الكلمتان المشؤومتان: شرق وغرب.. ويضمن لنا أن نعيش العيشة العصرية، ولا بد أن يجرّ هذا الخط في أثره كثيراً من ضروب الإصلاح الأخرى مثل المساواة الاقتصادية بين الجنسين، والتفكير العلمي، والعقلية بل والنفسيّة العلمية أيضا، إلخ..
وثالثاً ورابعاً وخامساً: إننا عندما نكتب الخط اللاتيني نجد أن تعلّم اللغات الأوروبية قد سهل أيضا، فتنفتح لنا آفاق هي الآن مغلقة”.
ويختم سلامة موسى بالتساؤل الآتي: وبالجملة، نستطيع أن نقول إن الخط اللاتيني هو وثبة في النور نحو المستقبل، ولكن هل العناصر التي تنتفع ببقاء الخط العربي والتقاليد ترضى بهذه الوثبة؟”.
لا شك في أن القارئ يلاحظ كم في هذه الدعوة من مغالاة، كما يتبيّن له ولا ريب أنّها لا تستند إلى أساس سليم تُبنى عليه، لا ترمى سوى إلى تشتيت التراث العربي وتشويهه. ولم يُكتب النجاح لدعوة سلامة موسى ودعوات غيره من أمثال أمين شميل وعبد العزيز فهمي وقبلهما الدكتور سبيتا وويلمور ووليم ويلكوكس وسواهم، وظلت السيطرة لهذا الحرف إلى اليوم، ثم ماذا كان سيفعل هؤلاء في كثير من الحروف العربية التي لا تجد لها رسما سوى في النطق العربي كحروف: الحاء، والغين، والعين، والذال، والضاد، والطاء، والقاف، والثاء، والهاء.. إلخ. ثم ماذا سيكون موقفهم من التراث العربي الزاخر المكتوب بحروف عربية؟ وهكذا وئدت هذه الدعوة في مهدها.
النّحوُ زَينٌ للفتىَ !
إنّ النشء الصّاعد من متعلّمي اللغة العربية يشكون من صعوبة نحوها، والحقّ أنه ما من “نحو” في أيّ لغة من لغات الأرض إلاّ ويعاني أصحابها من هذه الشكوى. ولقد أصبح “نحو” اللغة الألمانية مضربَ الأمثال في الصّعوبة والتعقيد، على أن قواعد اللغة العربية ليست أشدّ صعوبة من هذه اللغة أو تلك، يقول الدكتور محمد كامل حسين في هذا الصدد: “الواقع أن قواعد اللغة العربية بسيطة جدا يمكن الإلمام بها بعد درس غير مرهق، ولا يحتاج المتعلّم بعد ذلك إلاّ إلى المران على تطبيق هذه القواعد الشاملة فيستقيم بذلك لسانُه دون عناء كبير”.
إن الخطأ الفادح الذي يقع فيه واضعو مناهج التعليم كونهم يلقنون القواعد في صورتها الجافة قبل النصوص؛ في حين نجد القائمين على مناهج التعليم في المدارس الأوروبية على اختلافها يعوّدون التلميذ على التعامل مع النصّ في المقام الأول، فهو يقرأ ويعيد ويحفظ من غير أن يكون ذا إلمام بعلم النحو، ثم يطبّق بعد ذلك ما قرأه على القواعد…
فإذا أردنا الخروج بنحونا من صلابته علينا أن نكثر في المراحل الأولى من مناهج تعليمنا من النصوص؛ فالتعامل مع النصّ يكسب الطالب أو المتعلّم سليقة فطرية، ويعوّده بطريقة تلقائية على أشكال الحروف وبنائها وتراكيبها وتعدّد أساليبها، فقد وجدت النصوص مذ كانت العربية. أمّا النحو “كعلم قائم مدوّن” فلم يوضع إلاّ في زمنٍ متأخّر، أيّ في القرن الأوّل الهجري على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي. لقد كانت العرب إذن تنطق بالسليقة، ولا تخطئ أبدا في كلامها من غير أن تعلم لماذا كان الفاعل مرفوعا ولا المفعول منصوبا، كما أنّ كثيراً من علماء العربية وواضعي معاجمها المشهورة كانوا يقصدون الأعراب في البوادي حيث العربية سليمة نقيّة غير مشوبة، فيأخذون عنهم النطقَ الصحيح.. ومعروف عن الزّمخشري والأصمعي والكسائي وابن خالويه وأبي عليّ الفارسي وابن جنّي وسواهم كانوا يؤمّون البوادي ويسجّلون المعاني المستعملة فيها.
إذن، فالشكوى من النحو هي شكوى من قواعده الجافة الموضوعة في قوالب مملّة شأنها شأن القوانين الجامدة. أما اللغة العربية، فالدليل قائم – قديما وحديثا – على أنّ المران والممارسة يكسبان دارسيها مهارة فائقة على التركيب السليم والنطق الصحيح.. وكم من متعلم أو كاتب لم يدرس القواعد ومع ذلك يستطيع أن يكتب ويؤلف نتيجة الممارسة والقراءة المتواصلة.. القول المعرب إذن قوامه القراءة الكثيرة، والخوض في النصوص، وهذا ما نرجو أن يتمّ ويعمّم في مناهج تعليمنا، أيّ مضاعفة حصص النصوص، وحسن اختيار القواعد. وانطلاقاً من النصّ ودراسته، نستنتج القاعدة التي بني عليها هذا النصّ، وهذا معناه التطبيق الفعلي للدراسة النظرية. وقديماً قيل: وَلسْتُ بنحويٍّ يلوكُ لِسانُه/ ولكنْ سليقيٌّ أقول فأُعْرِبُ وكم من محاولات لتبسيط النحو العربي التي تقدّم بها غير قليل من الدارسين ظلت حبراً على ورق دون أن تغيّر شيئا من المشكلة القائمة. أما مسألة الشاذ في اللغة الذي يخرج عن المألوف والاستعمال يظلّ صورة متحفية لنطق بعض القبائل العربية القديمة لا ينبغي أن نأخذ به، فالشاذ أو الشارد أو النادر لا حكم له كما يقال. ولعلّك لا تتّفق مع القائل: خطأ مشهور خير من صواب مهجور !.
إشكالية الشّكل !
وتنبثق عن النحو العربي مسألة أخرى يرى فيها البعض مشكلة قائمة بذاتها، وهي مسألة “الشّكل” شكل الحروف العربية تفاديا للغموض واللبس والإبهام. وهناك اتهام مشهور يوجّه إلى أبناء اللغة العربية، في هذا الصدد، وهو أنه حتى كبار دارسيها يحارون أو يتعثّرون في بعض الأحيان عند قراءة نصّ من النصوص العربية مخافة الخطأ أو اللحن ومن أجل شكلها شكلاً صحيحاً. على حين أننا نجد القارئ الفرنسي أو الإسباني –مثلا- حتى وإن كان دون مستوى مرحلة الثانوية العامّة يقرأ النصوصَ في لغته بطلاقة من غير أن يرتكب خطأ واحداً، وهذه من أخطر الاتهامات التي توجّه إلى اللغة العربية، ويرى في ذلك الباحثون رأيين اثنين، يقول الأوّل: إن اللغة العربية ليست صعبة كما يدّعون، بل إنّ النقص كامن فيمن لا يجيدها حقّ الإجادة، وإذا كان المرء عالما بأصولها، مطلعا على أسرارها، دارسا لقواعدها، ملمّا بأساليبها فإنّه لا يخطئ أبدا، في حين يذهب الرأي الآخر أن العربية فعلا تشكو من هذه النقيصة، ففيما يخصّ شكل الكلمات على الأقل. هناك كلمات يحار المرء في قراءتها القراءة الصحيحة وقد يقرأها على غير حقيقتها، وهناك أخرى يمكن نطقها على خمسة أو ستة أوجه، وهذه مشكلة في حدّ ذاتها؛ ولكن كما أسلفتُ آنفا فإنّه مع المران والقراءة المتعدّدة وتتبّع السياق كل ذلك يساعد على تفادى أمثال هذه الأمور التي لم تحلّ أبداً دون التأليف والخلق والإبداع المستمر على امتداد التاريخ العربي الحافل بجليل الآثار في كل علم.
الفُصحىَ أم العاميّة
وفي منتصف القرن الماضي، حار قوم في استعمال الفصحى أم العامية؟. ولقد تعدّدت الدراسات في هذا المجال بين مؤيّد للعامية متعصّب لها بدعوى التبسيط والسهولة واليُسر، وبين مستمسكٍ بالفصحى لا يرضى بها بديلا. والحقيقة التي أثبتتها السّنون أن الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعاميّة وعمل على نشرها وتعميمها، ثمّ عاد يكتب بفصحى ناصعة صافية نقيّة.. وفي فترة مّا من فترات حياة الأديب محمود تيمور كان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية؛ بل إنه كتب قصصاً بها غير أنه سرعان ما عاد كاتباً عربياً مبيناً، بل ومتحمّساً كبيراً للفصحى ومدافعاً عن لوائها كعضو بارز في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ودعوات الأديب اللبناني الكبير سعيد عقل، الذي خطفته منّا يدُ المنون مؤخراً رحمه الله، وسواه من الكتّاب إلى استعمال العامية معروفة وسال من أجلها حبر غزير.
وقد أثير في المغرب مؤخّرا نقاش أرعن حام حول هذا الموضوع سرعان ما خبا أوارُه، وخمدت نارُه، حيث دعا بعضُهم إلى استعمال “الدّارجة” (العاميّة) بدل الفصحى في بعض مراحل التعليم..
وعزا هؤلاء عن غير رويّة، ولا بيّنة ولا علم ولا برهان المشاكل التي يتخبّط فيها التعليم في هذا البلد وسواه إلى هذا الأمر، ولكن هذه الدعوة الواهية سرعان ما وئدت هي الأخرى في مهدها.
العربيّة واللّغات الأخرى
الدّفاع عن لغة الضاد التي أصبحت اليوم في نظر البعض من مكوّنات هويّات البلدان العربية، إلاّ أنّ هذا الدفاع لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية والاهتمام والنّهوض والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر مهمّة وأساسيّة أخرى في المكوّنات الأساسية للهوية الوطنية في هذه البلدان.
وفي حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ أقدم العصور في هذه الرّبوع والأصقاع، في مجتمعات تتّسم بالعدّد والتنوّع والانفتاح، ليس على لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة وحسب، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى الدخيلة كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية والإيطالية وسواها..
وحسبي أن أشير في هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها، والذي لم يمنع أبداً في أن يكون هناك علماء أجلاّء في هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان، سواء البلدان المغاربية أو خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية وبشكل خاص في الأندلس، حيث تعايشت كل من اللغتين العربية والأمازيغية جنباً إلى جنب، بل لقد كان لهما تأثير بليغ في لغة سيرفانطيس.
وبحكم هذه المعايشة، يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أنّ معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ والقياس والأكل والسّقي أو الريّ والبناء كلها من أصل عربي، فَمَنْ يبني البِنَاء؟ ألبانييل Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء، أو الباني، وماذا يبني؟ القصرAlcázar، القبّة Alcoba، السّطح Azoteaأو السقف (وهي بالتوالي تُنطقُ في الإسبانية: ألكَاسَرْ، ألْكُوبَا، أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجُب Aljibe، وألبِرْكَة Alberca (وهي تُنطق في الإسبانية):أسِيكْيَا، ألْخِيبِي، ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّرAzúcar، الأرزArroz، النارنج Naranja، الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa، التّرمُسAltramuces، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas(و هي تُنطق في الإسبانية بالتوالي: أسوُكار، أرّوث، نارانخا، الليمون، الكاشُوفا، ألترامويسيس، أسيلغا، إيسبيناكاس).وبماذا تزدان بساتيننا، أو تُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، Jazmín والزّهرAzahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا، ) بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها كلّها دخلت واستقرّت في هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها، والمعاجم تثبتها، وتنشرها، وتتباهى بها والكتب والتآليف والمجلدات والأسفار والوثائق والمظانّ تحفل بها بدون انقطاع إلى اليوم سواء في إسبانيا، أو ما وراء بحر الظلمات في مختلف بقاع وضِيَع وأصقاع العالم الجديد.
كلمات أمازيغية
وهناك كذلك كلمات أمازيغية استقرّت بدورها في اللغة الإسبانية مثل (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني الرّمح الكبير) . وقد أثبتها المُستشرق الهولندي الشهير دُوزي في معجمه ككلمة تنحدر من أصل أمازيغي بربري، واستعملها كولومبوس في يومياته، بصيغة الجمع Azagayas ( الزغايات) وهي موجودة، ومُدرجة في معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية بهذا المعنى، وغير موجودة في المعاجم العربية؛ لا” لسان العرب”، ولا “مقاييس اللغة”، ولا “الصّحاح في اللغة”، ولا “القاموس المحيط”، ولا ” العُباب الزّاخر” لا في صيغة المفرد، ولا في صيغة الجمع، مِمّا يدلّ الدلالة القاطعة على أصلها وأثلها الأمازيغي حسب ما يؤكّد المستشرق الهولندي الثقة المعروف آنف الذكر رَيِنْهَارْت دُوزِي ـ (Reinhart Dozy (ليدن، هولندا، 21 فبراير 1820 ـ والإسكندرية، مصر، 29 أبريل 1883)، وكلمة (آش) تُجمع بـ”أشّاون” وتعني القرون ومنها اسم مدينة (الشّاون) فردوس الجبل الجميلة.
ويؤكّد صاحب “الإحاطة في أخبار غرناطة” ابنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد في شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل اسماً أمازيغياً هو “مدينة آش”، ونهر “وادي آش” أيّ وادي القرن وهو في الإسبانية “Guadix “، أو “río de Acci”، “Wadi Ash”، ” río Ash ” بالقرب من مدينة غرناطة.إلخ (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل وبعض الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من سراقسطة) المقتبسة من اسم مدينة “تِرْوَال” المغربية بالقرب من وزّان (وهي من قبائل بربر صنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية، ويرجع اسم هذه المدينة إلى القبيلة البربرية “بني رزين” التي عاشت بها واستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدر من “بني رزين ” وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية والكائنة في الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوان والحسيمة. ومنها كلمات مثل Gomera من “غمارة” وهي عند الإسبان اسم جزيرة في الأرخبيل الكناري، de Gomera Vélezوهذه الكلمة من اسم “بادس” وهو (اسم شبه الجزيرة المحتلة من طرف الإسبان الكائنة بجوار شاطئ “قوس قزح” وبني بوفراح ونواحيها بإقليم الحسيمة)، وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي، الذي ذكره ابن خلدون في مقدمته بكل تبجيل، كما تحمل اسمَه أعرقُ ثانوية في مدينة الحسيمة، واسم بادس مُستعمَل بكثرة في إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ . وفى دارجتنا المغربية نجد العديد من الكلمات الأمازيغية (سوسية، وشلحية، وريفية، وحسّانية) مبثوثة فيها، نسوق واحدةً منها فقط على سبيل المثال وليس الحصر لضيق الوقت، (لعلّها تفي بالغرض لمدلولها العميق في حياة المغاربة ! ) وهي كلمة “تاغنّانت” التي استقرّت في العامية باسم “أغنان” والتي يقابلها في العربية كلمة “العِناد” !، ولا وجود لكلمة(أَغْنَانْ أو غَنَنَ) في المعاجم العربية بهذا المعنى. ناهيك عن أسماء المنتوجات التي أدخلها المسلمون إلى أوروبا في مختلف الحقول والمجالات.
ويصل أمريكو كاسترو إلى نتيجة مثيرة فيقول: “إنّ فضائلَ الأثر والعمل عند المسلمين، والثراء الاقتصادي الذي كان يعنيه هذا العمل وهذا الأثر كلّ ذلك قُدِّمَ قُرْباناً وضحيةً من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان”. ويختم كاسترو بكلماتٍ مغلّفةٍ بسخريةٍ مُرّة من بني طينته، مُشيراً إلى أنّ “ذلك الثّراء وذلك الرّخاء لم يكونا يساويان شيئاً إزاء الشّرف الوطني .”..!!
وكان “العربيّ” في هذه الرّبوع والضّيَع والأصقاع في هذا السّياق يفتخر ويتباهى بإخوانه من البربر الأمازيغ، والعكس صحيح، قال قائلهم فيهم:
وأصبحَ البِرُّ من تكراره عَلَماً** على الخَيْرِ والنّبلِ والمَكْرُمَاتِ.
والبِرّ(بكسر الباء) الذي يعني الخير والإحسان إذا كرّر أصبح (بِرّبِرّ).
وهذا شاعر آخر من “الرّيف ” في شمال المغرب يُنشد متحسّراً على مدينته التي اندرستْ اندثرتْ وتلاشتْ بعد التعايش والازدهار اللذين عرفتهما من قبل، مستعملاً ثلاث لغات في بيتٍ واحدٍ من الشّعر وهي: العربيّة، والرّيفيّة، والسّودانية، فقال: أثادّرث إينو مَانيِ العُلُومُ التي ذَكَم.ْ…. قد اندرستْ حقّا وصَارَتْ إلى يَرْكَا. وقيل إنّ “يَرْكَا” باللغة السّودانية تعني الله، وبذلك يكون معنى البيت: أيا دارِي أين العلومُ التي كانت فيك.. قد اندرست حقّا وصارت إلى الله .
شهادات المُستشرقين
العالم يركض ويجري من حولنا، والحضارة تقذف إلينا بعشرات المصطلحات والمستجدّات يومياً، والاختراعات تلو الاختراعات تترى في حياتنا المعاصرة.. ونحن ما زلنا نناقش ونجادل في أمور كان ينبغي تفاديها أو البتّ فيها منذ عقود عديدة، ترى كيف يرى كبار المستشرقين الثقات هذه اللغة بعد انصرام هذه القرون الطويلة التي لم تنل من قوّتها وزخمها وعنفوانها وشبابها المتجدّد حبّة خردل؟ إنها ما زالت كما كانت عليه منذ فجرها الأوّل لم يستعص عليها دينٌ ولا عِلمٌ ولا أدبٌ ولا منطق، إنّها ما زالت مشعّة، نضرة، حيّة، نابضة، خلاّقة، مطواعة معطاء، لقد شهد لها بذلك غير قليل من الدّارسين والمستشرقين، واعترفوا بقصب السّبق الذي نالته على امتداد الدّهور والعصور في هذا القبيل.
يقول المستشرق الفرنسي لوي ماسّنيون في كتابه “فلسفة اللغة العربية”: “لقد برهنت العربية بأنّها كانت دائما لغة علم، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بنفس الرّوح والقوّة والفعالية التي طبعتها على امتداد قرون خلت، إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والاختصار.. إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة”. إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول: “للعطش خمسُ مراحل في اللغة العربية، وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء، وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى، والأُوّام، والهُيام، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان “هائمٌ” هو الذي إذا لم يُسْقَ ماء مات”، ويضيف ماسّينيون: “نحن في اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطراً كاملاً وهو “إنه يكاد أن يموت من العطش” ولقد أصبح “الهيام” (آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوى، والجوى، والوله، والصّبابة”.
يرى بروكلمان أنّ معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع انتشاراً تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا.
ويرى إدوارد فان ديك: “أنّ العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها واستيعاب آدابها”.
المستشرق الهولندي رينهارت دوزي (صاحب معجم الملابس الشهير) يقول “إنّ أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا اهتماما يُذكر للغة اللاتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها”.
يوهان فك: يؤكّد أن “التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة في التاريخ”.
جان بيريك: “العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل”.
جورج سارتون: “أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين”. وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابها الكبير بلغة الضاد يضيق المجال لسردها في هذا المجال.
جهود عربيّة محمودة
وتجدر الإشارة في هذا الصّدد إلى أن العديد من الأدباء والشعراء والباحثين والعلماء العرب، من مسلمين ومسيحيين على حدّ سواء، في العصر الحديث، قد لعبوا دوراً كبيراً في الحفاظ على اللغة العربية ونشرها، والإبداع فيها وبها، منذ عقود، وعهود عديدة خلت، ويرجع الاهتمام بلغة الضاد ومحاولة إحيائها وتطويرها لحركة النهضة العربية في القرن التاسع عشر التي ترجع بذورها إلى ما قبل ذلك، ويمكن تتبّع آثارها بفعالية وجهود حثيثة في مصر وسوريا ولبنان والعراق والأردن والمغرب والجزائز وتونس، وسواها من البلدان العربية الأخرى؛ ففي لبنان على سبيل المثال وليس الحصر نجد أعمال المطران جرمانوس فرحات من القرن الثامن عشر، الذي وضع مؤلفات عديدة وقيمة في النّحو والصّرف والإعراب، لعلّ أهمّها “بحث المطالب”، الذي يعتبره البعض أوّل كتاب وُضع في ضبط قواعد الصرف والنحو للغة العربية.
ولقد بذل هؤلاء العلماء وسواهم في هذا البلد الجهودّ المتوالية في هذا الشأن منهم الأديب والشاعر اللبناني ناصيف اليازجي، الذي نبغ كثير من أفراد أسرته في الفكر والأدب، والذي اضطلع بدور كبير في إعادة استخدام اللغة الفصحى بين العرب في القرن التاسع عشر؛ بل إنّه أخذ على عاتقه تهذيب اللغة وتشذيبها، وعمل على تقريب متناولها فحبّبها إلى القلوب، وعمل على الإسهام في إحياء تراث اللغة ونشره.
ومن الأسماء البارزة في هذا القبيل نسوقها عرضاً كذلك، المعلم بطرس البستاني، ويعقوب صروف، ولويس معلوف، وخليل خوري، والأب أنستاس الكرملي، والأب لويس شيخو، وجبران خليل جبران، وجورجي زيدان، وفيليب حتي، وأمين الريحاني، وسليم البستاني، وبطرس البستاني صاحب “روضة الأدب في طبقات شعراء العرب” و”نهاية الأرب في أخبار العرب”، وأمير البيان شكيب أرسلان، وفارس الشدياق، وحنّا الفاخوري وسواهم، وهذا ليس سوى غيض من فيض منهم، وهم كُثر.
إن بعض كتب ومؤلفات هؤلاء العلماء يتمّ تدريسها في مناهج التعليم في مختلف البلدان العربية، بما فيه المغرب؛ فكتاب “تاريخ الأدب العربي” الشهير لحنّا الفاخوري، الذي ظهرت طبعته الأولى سنـة 1951، كان من مقرّرات الباكالوريا عندنا، ولقد كِدْتُ أحفظه عن ظهر قلب من شدّة إعجابي به، ورجوعي إليه !.
العربية إذن لغة غير عاجزة عن المتابعة، والمسايرة، والترجمة، والعطاء بنفس الرّوح، والزّخم، والفعالية التي طبعتها باستمرار، وربما كان العجز كامناً، وساكناً، ومقيماً في أصحابها، وذويها، وأهلها، ومتعلّميها، وأنّ ما يدّعيه البعضُ من مشاكل، أو نقائص في هذه اللغة ليست سوى ادعاءات واهيّة.
*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم (كولومبيا).