د. كمال الدين رحموني
من أخطر الظواهر التي ظلت إلى زمن قريب تُعتبر نشازا في المجتمع، واستثناءً داخل البيئة الاجتماعية التي ينظمها الإسلام،ظاهرةُ الجرأة المتزايدة والاندفاع المتهافت، والهجوم الشرس المتفلت من كل الروادع والضوابط، سواء منها المنهجية أو البنوية، على ما ظلّ محلّ إجماع واعتزاز لدى القاعدة الشعبية. وإلا كيف تُفهَم بعض الأصوات التي تريد أن”تستدرك” على النصوص التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، والأحكام الفقهية المُجمَع عليها؟ وما معنى أن ترتفع عقيرة من يُسمَّون بالنخبة والحداثيين بالتطاول على بعض القيم التي أرسى الدين ركائزها وحدد مجالاتها، وأصنافها، ومستوياتها، الفردية والجماعية؟ ومع ذلك تأبى هذه الأصوات إلاّ الخوض في حقل لا تملك آليات الاشتغال فيه، وتصرّ على الاصطياد في الماء العكر، وكأنها استنفذت جميع مراحل النضال في أوْلويات هموم المواطن، من ضروريات العيش الكريم والكرامة الإنسانية والعدالة المتوخاة. وليت شعري، كيف انفلتت بوصلة هؤلاء المغامرين والعابثين بمقومات الهوية والدين، فغدوا كالمُنْبَتّ الذي” لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى” .
إن إثارة قضية الحريات الفردية من جديد، ليس في الحقيقة سوى المشجب الذي تُعلَّق عليه إخفاقات العقل المتتالية، وأنّات الفؤاد المجرّد من الهدي الإلهي، فصار العقل يُحكَّم وحده، ويُرجع إليه من دون سواه، في حين يُجاهَر النص الإلهي بكل ألوان المشاكسة ويُناصَب العداء، تارة باسم “الاجتهاد” وتارة باسم تاريخية هذا النص المقترن بسياق زمني معين، وتارة باسم سمو المواثيق الكونية، وكلُّها ذرائع لا تنهض دليلا مقنعا، ولا تُسعف في استغفال الناس وتجييش أغلبيتهم من أجل الدفع بهم نحو الانخراط في هذه الدعوات التي تسعى إلى مصادرة جوهر الانتماء لهذا الدين، وإلا كيف تُسوَّغ الدعوات لمساءلة ما هو قطعي الثبوت والدلالة؟ وكيف تُستاغ المطالَبات بإعادة النظر في مسلّمات الدين، وتكييف مقتضياتها َمع ما يُزعَم من مواثيق العصر الكونية البشرية؟ وكأن قضايا الإنسان كلَّها قد كُسِبت، وكأن الحقوقَ جميعَها أو جلَّها قد حيزت، أو كأن الرهانات والتحديات البشريةَ قد رُبِحَت، ولم يبق سوى أن يُعادَ النظر في ثوابت الأمة. ومما يدعو للعجب، أيضا، استقواء هذه النخب على قيم مسطورة بالنص القرآني المنزل من الحكيم الخبير، لكن حين يتعلق الأمر بالنص البشري سواء كان دستورا أو قوانين، تتوارى الآراء، وتخبو الأصوات، وتنكسر الجرأة درءا للمحاسبة والمتابعة.
ومن عجيب الأمور، أيضا، وفي معترك التدافع السياسي المتلبِّس بالهواجس الآسرة والمنافع المغرية الزائفة، أن تُكيَّف المرجعية وفق هذه الظاهرة المتعالية، تجنبا ل”تهمة” الانتماء، وتوضع المقارنات على مستوى واحد، وتصبح المطالَبات الحقوقية النشاز تحاصر هذه المرجعية، مع التباين البيّن بين المصدرين: مصدر هذه الدعوات، ومصدر المرجعية الثقافية الإسلامية. وتأتي بعض الاحداث والوقائع التي يُساءُ توظيفها، ويغيب الصواب في التوسل بها، لتصبح مطية للبروز والانتشاء تحت ذريعة تقييد الحريات، كحرية الإنسان في التصرف في الجسد، وكأنه مالكه ابتداءً وانتهاء. فباسم هذه الحرية المزعومة، يُراد للإنسان أن يفعل في نفسه ما يشاء وكيف يشاء، و باسم الحرية الفردية، يحق للمرأة إعادة النظر في قضية الحجاب التي تكاد تصبح قضية جديدة لدى صنف من النساء اللائي ارتدَيْنه طيلة سنوات باعتباره واجبا شرعيا، فإذا ببعضهن “يكتشفن” بعد مدة أن ارتداء الحجاب ليس له من المؤيدات الشرعية ما يجعله يرتقي إلى الوجوب، بل منهن من تعتبره تعسفا من لدن الذكور في التفسير الفريد لآيات الحجاب في القرآن الكريم، حيث “لا نصَّ صريحا يدل على الوجوب” ، أما نصوص الحديث الشريف، فلا تغدو ” أن تكون نصوصا بشرية، رواها بشر ممن خلق” .
والغرض من هذه الهالة كلها هو إزالة الهيبة والقدر عن النصوص، و استهداف الوحيين، والتشكيك في كونهما مصدرين بارزين في التشريع. وقد يُتَفهَّم التخلي والنكوص عن الاقتناعات الأولى المؤطرة لحرية ارتداء الحجاب والالتزام به، في وقت لم يحصل فيه النضج والإلمام بتصور الإسلام لقيمة الحجاب، باعتباره حرية تمارسها المرأة، وليس قيدا لها كما يزعم الزاعمون. وقد يستسيغ المرء أيضا تَخلِّيَ المرأة عن ارتداء الحجاب لضعف في النفس، أو مواكبة واستجابة لمؤثرات العصر التي تستهدف أنوثة المرأة وتطويعها.
لكن ما لا يُستساغ هو التنظير لخلع الحجاب بمبررات واهية ومزاعم مخادعة، ساقتها “محتجبة” سابقة تبين من بعد أن صنفتها الصحافة الفرنسية ضمن مسمى” النسوانية الإسلامية”، أن هذا الوصم ينسجم مع كل فهم يريد أن يقدم تصورا حداثيا للدين في مقاربة قضايا لا على أساس النص، وإنما على أساس العقل المتفلت، وما يصل إليه من فهوم يعوزها التسديد الرباني. وهكذا يصبح اللباس (والحجاب) والشكل مسألة حرية، والحريةُ الحقيقية “هو أن تكون حرا من التبعية العمياء، وأن تكون حرا من الفكر المهيمن، وأن تكون حرا من كل أنواع العبودية، إلا للواحد القهار الذي فطرنا على الحرية والكرامة وسمو العقل”. هكذا تزعم الطبيبة المهتمة بالعلوم الإسلامية.الحريةُ تحرُّرٌ من” التبعية العمياء”. فهل الامتثال للواجب الشرعي ضرب من التبعية العمياء، أم هو سلوك يستوجب الثناء. نعم، التبعيةُ تكون عمياءَ حين تفقد المعنى والسداد. فكيف تكون التبعية عمياء وهي تستجيب لأوامرَ ربانيةٍ هادية، وهديٍ نبوي كريم. التبعيةُ العمياء حقيقةً، هي حين يفقد المرء البوصلة، ويتمرد بالعقل على الدين، ويشرع العنان لهذا العقل وحده ليصبح متبوعا في كل مناحي الحياة.
وأما ” أن تكون حرا من كل أنواع العبودية، إلا للواحد القهار الذي فطرنا على الحرية والكرامة وسمو العقل” فالمعادلة لا تستقيم، بل وتحمل التناقض البيِّن في ثناياها، فهل تصحُّ العبودية لله الواحد القهار في غياب الامتثال والخضوع له سبحانه، فليست العبودية ألفاظا يلوكها اللسان، وإنما هي قيمة تستوجب الإذعان والاستسلام لمن نَدين له بها، ومن مقتضيات العبودية لله، الإيمان بما فرض وأوجب، وشرع وأحكَمَ، وإلا غدت العبودية شعارا لتمرير تشوُّه في العقل أو ضعف في النفس، وحتى مع سمو العقل، فإن هذا السمو يظل موسوما بخاصية المحدودية التي تحول بينه وبين إدراك عالم الغيب الذي استأثر الحق سبحانه وحده بعلمه، وعلى أساس هذا الاستئثار بالعلم، كان حقيقا بالعبودية. وحين يسمو العقل يقينا يدرك أن حقيقة العبودية لله تعني ضمن ما تعنيه التسليمَ بأمره المرأةَ بالتزام الحجاب فريضةً شرعية، وليس رأيا ذكوريا فريدا متعسفا في تفسير النصوص، وكأن التراكم العلمي في تفسير آيات الحجاب -حسب هذا الزعم- هو تحامل ذكوري ممن “أوَّلَ” أو ” فسّر” النصوص ليحكم على المرأة بارتداء الحجاب، ويقيّد حريتها، ولذلك “من المشروع لهؤلاء النساء أن يشككن في التفسير الفريد والتوافقي للنصوص المقدسة من قبل نخبة من الذكور الذين قرروا ما هو المعيار الذي يجب أن يكون لهؤلاء النساء”.
هكذا يصدر الرأي الذي لا يستطيع التخلص من آثار التشكيك السابقة التي طواها الزمن. وتلك فرية أخرى تختزن الهاجس المحرك لمثل هذه المقاربات، وتبين طبيعة الصراع المتوهَّم المُفترى النابع مما يعرف حديثا في” أدبيات” الحركات النسوانية التي آلت على نفسها ” مواجهة” عدو مُفترَض هو الذّكَر في مقابل الأنثى، ومن ثم فكل ما يصدر عن هذا الذكر فيما يخص المرأة، يظل محكوما بهذا الفهم الكسيح