محمد سعيد الوافي / واشنطن
كانت عادة أهل طنجة أن تتحول ليلة القدر عندهم إلى مهرجان ديني وشعائري يحمل كل معاني الإرتباط الروحي بالدين الحنيف ويشكل فرصة لصلة الأرحام والتواصي بالرحمة والغفران والتسامح .. تحيي المساجد الصلوات ويستعد الأهالي لهذه الليلة المباركة بأزهى وأجمل الثياب من جلاليب وأثواب وزينة وعطور تتغير رائحة الأحياء فيفوح البخور من شرفات المنازل والأكواخ ويتعطر الجو بنسيم ماء الزهر والريحان فترجف قلوبنا الصغيرة وينتابنا فرح كبير ممزوج باسى وحزن دفين فها هو شهر الحرية والإنعتاق والمرح قد اقتربت نهايته ولم يعد يفصلنا عنها سوى ايام ثلاث وربما يومين لا أكثر.
لكن الليلة في عرف نساء طنجة كانت ليلة عناء وتعب وكد واجتهاد .. فإضافة لمراسيم الإحتفال بصيام الصغار الأول وما يتطلبه من إستعداد وتحضير كانت هذه الليلة مناسبة لإطعام المصلين و بدأ العمل في تحضير حلويات العيد وهو الأمر الذي كان يستمر على مدى الثلاثة أيام الأخيرة من الشهر المبارك.
كعادته سلم أبي شفاه الله ( أرجو منكم أن تدعو له ) لجدتي مصروف الكسكس والمال لشراء مستحضرات الحلويات من سكر وبيض وجوز وتمر وغيرها .. وكنت أجلس كالعفريت لأفاوض عن حقي, فبدأ من هذه الليلة سأكون المسؤول على نقل صحون الكسكس إلى المسجد واحد باسم جدتي ترحما على والديها وواحد باسم والدي والآخر باسم العائلة وتلك كانت عادة أبي ولم يفرط فيها على مدى سنوات صباي وشبابي . كما سأتحمل على غرار ما يفعله كل أبناء الحي مشاق نقل صواني الحلويات إلى الفرن على مدى الليالي الثلاث ويا لها من تجربة ويا له من زمن جميل ذلك الذي غادرنا وتقهقر لتلتهمه صيغ معاشية لا أدرك لها إسما غير الغربة.
– شنو هي 400 فرنك ؟ ( 4 دراهم ) نبقى أنا ماشي ماجي من الفران 3 أيام ..لا نعاس لا راحة .. وصافي .. 10 دراهم ولا جيبو الطراح ( الطراح هو صبي الفرن )
– أولدي واش كتهضر بنيتك .. راه داركوم هاذي .. وشكون لي ماش يعاون إلى انت ما عاونتيش ؟
– وكل عام انا .. حسبوني ميت..ياك الطراح كتضبرو عليه مزيان ؟؟؟ .. آ سيدي حسبوني طراح يا الله
– آسمع والله يا والديك وزدت هضرة وحدة حتى هاذ 4 دراهم ما غتشوفهاش … وغادي تخدم لافرنك لا جوج … تبارك الله !؟؟
– لا صافي أنا غير كنضحك .. ولكن يوجدو كلشي أبا .. ماشي يبقاو ماشيين ماجيين بيا ..
– هاذاك ماشي شغلك .. أنت لي عليك هو تعمل لي كيطلبوه منك وصافي.ز لا صداع لا مشاكل ..فهمتيني ولا نعاود
خرجت إلى شجرة الصفصاف فوجدت عصابة العفاريت وقد بدأت إجتماعا طارئا لتباحث مستجدات ليلة القدر والعيد.. وتداول ما سنجنيه من أموال وكيف سنستثمرها ..كان عبد الرحمن يريد شراء أقمصة جديدة للفريق بينما تشبث حميد بضرورة إستكمال الأحذية .. فيما كان رأيي أن نشتري طاولة لبيع الحلويات واللعب والبالونات والزمارات يوم العيد وهي عملية إستثمارية ستضاعف لا محالة ما سنجمعه من عيديات ( فلوس العيد ) ..
استمر النقاش والصراخ لفترة طويلة وكانت الغلبة هذه المرة لرأيي رغم ما خلقه من إنشقاق , حيث قرر أحمد أن يفتح دكانا بباب بيته بينما سنشترك نحن في دكان متجول على عجلات ( كروسة ) ويكون المكسب لنا جميعا نساهم بجزء منه للفريق والباقي لجيبنا الخاص .
انفض الإجتماع . وانزويت مع عبد الرحمن للحديث في موضوع سخرة ليلة القدر والعيد
– شحال عطاوك ؟
– آصحبي.. والو 400 فرنك.. ماشي حتى باش نخور سناني.. مصيبة ..
– وخاصهوم يزيدونا .. كل عام كيعملوها بنا
– وأنت شحال عطاوك ؟
– الواليد قال 3 دراهم والوالدة 3 دراهم ..
– وشكون لي بحالك أنت المسعود
– ولا يهمك .. عندي واحد الفكرة خامجة .. يا لطيف ماش تعجبك مزيان آ جينوين ( تصغير لكلمة الجني )
– شنو هي آ خاي ؟
– سمعني مزيان .. الحلوة ماش تكال ماش تكال.. ياك ؟
– كاينة
– علاش ما ناخدوش عشرة ديال الحلوات من كل صينية ونعدلو شي خمسة دطباصل ونبيعوهم فهاذ الثلث يام أو فالليلة دلعيد ..
– قل بالعربية نسرقو الحلوة ؟
– آش كتخور.. الحلوة ديال باباك .. وديال العائلة ديالنا .. زعما راها ديالنا علاش حنا شكون؟
– مانعرف .. ويلا حصلنا .. آ المسخوط
– فاش ماش نحصلو .. ؟! ياك الحلوة ديالنا .. والدار ديالنا .. والفلوس دواليدينا
– أنا خايف يعيقو بنا .. وندوزو هاذ العيد بشي فلقة عاودتاني
– وما تخافشي آ بنادم
– المهم إلا عاقو بيا .. نقولوم أنت إلي ديتي الحلوة ..
– واصافي غير زعم وكون راجل .. ولا انت ظاهرة باقي عايل ستيتو
( طفل صغير )
– مشات .. صاف ولا عليك.. بشات على باباها واش عسكر حنا ولا كلايط ؟؟
كان عبد الرحمن يعلم جيدا أن لغة التحدي هذه تفيده في كل المخططات معي ..وكان أكثر يقينا بأن فوضى التحضير للعيد لن تترك للأهل فرصة لتفحص عدد الصينيات وكم قطعة حلوى في كل واحدة ..
غير أن المشكل التي واجهتنا هي التحايل على إعادة تصفيف الصواني خصوصا وأن كل حلوى كانت تترك مكانا مرسوما .. فإذا كان الأمر سهلا مع كعب غزال وحلوة الكاوكاو لأنها ناشفة فإن الأمر سيكون صعبا مع حلويات مثل حلوة التمر والكوكو .. وتلم التي تلتصق.
اجتهدنا في ترتيب العملية بكل تفاصيلها لتوفير بضاعة إضافية.. للتغلب على مصاريف مشاريعنا الطفولية البريئة .. لم نكن نحلم بالكثير .. لم نكن نحلم بالكومبيوتر أو حتى لعبة إلكترونية صغيرة لأنها لم تكن على قيد الحياة يومها .. بل كان كل أملنا في أشياء قد لا يرضى أطفال اليوم حتى مجرد النظر إليها .
**************
بدات جدتي في تحضير جلستها المعهودة وقد أحاطت نفسها بأكياس الدقيق والسميد وقلل الماء .. كانت رحمها الله تصمم كل سنة أن تصنع الكسكس بيدها بدأ من عملية الفتل والرش بالماء والغربلة والتصفية ثم الإنطلاق نحو التبخير للمرة الأولى والثانية بينما كان بقية النسوة يتولين عملية طهي الدجاج وتحمير البصل والزبيب وتنظيف الجوز .. ليتحول البيت بدا من ليلة القدر إلى ورشة عمل يسابقن خلالها الزمن .. كانت المنافسة تحتد أحيانا بين هذه الأسرة وتلك وخصوصا إذا العلاقات الدبلوماسية مقطوعة بينهما لسبب أو لآخر .. بينما كان جو التعاون يطبع كل الجيران والأقارب والأهل .. فهذه تستعمل أواني هاته وتلك تستعير أطباق تلك .. دون حسيب أو حساب . كانت طنجة في تلك الأعوام الخوالي تكتب بمداد العوز والفقر وقلة ذات اليد تاريخا من ثراث المغرب الزاخر .. تاريخ أجدني اليوم اذرف الدم دموعا عليه حين لا أرى له اثرا في شوارعها.. فهل ذهب دون رجعة ..؟ أم سيعود بلون وشكل وهندام لا يمت بصلة لما هو مختزن في رفوف ذاكرتنا.؟
جلست كما هي العادة لبعض الوقت أملأ قلبي بعطر وحنين تلك اللحظات .فتارة أمد يدي على الكسكس وهو يفتل فأنال ضربة بملعقة حديدية طويلة وتارة أدعي بأنني أنظف الجوز ( اللوز ) فألتهم معظمه كلما سنحت لي الفرص .. وبين الفينة والأخرى ادخر بعض السكر وبعض الكرموس لكي أصنع منه مع عصابة العفاريت حلوى الحشيشة وهي عبارة عن سكر محروق ممزوج بالكرموس اليابس .. فنأكلها وندعي بأننا مخدرون ونتباهي برجولة لم نكن نعلم عنها الشيء الكثير.
– جبد السكر .. آولد الحرام ..ويلي ويلي .. حتا على نص كيلو دسانيدا وغبرها؟ والله حتى نعيط لباباك
– هاك .. ديها . ىه على مزيريا .. الموت تقول عمركوم ما شفت الخير ؟
– لا .. شوفو غير انتينا آ الجن .. يا الله بعد من الكوزينا .. ملي نبغيواك ماش نعيطولك
– قول ملي تبغيو تامارا ..
– إيوا راك مخلص .. ولا والله ما تشوف شي فرنك
– هاهو خارج .. غير سربيو .
– مسكين .. عندك الشغل بزاف .. الوقت عندك عامر( تتهكم ) ..سير درق علينا زلافتك قبل ما نعيطلو .. قال سربيوني ؟؟
خرجت للشارع وقد ايقنت أن عبد الرحمن على حق .. يبدو أنهم أصبحوا أكثر حرصا على المواد وكأن الأمر قد تغير ولم تعد المواد متوفرة كما كان عليه الأمر من قبل فمنذ سنة المسيرة ارتفعت أسعار المواد الغذائية وبات البسطاء من أبناء الشعب المغربي يتحملون تضحيات كبيرة من أجل تعمير وبناء الأقاليم الجنوبية المحررة حديثا .. فقلت فرصنا في ادخار العدة لشيطناتنا الليلية الرمضانية.
**********
حملت الصحن الأول فيما قرر عبد الرحمن أن يحمل صحنين ومن راءنا حميد يحمل صحنه وبالتوالي كان أطفال الحي يتقاطرون على المسجد وكل يحمل صحن أسرته بكل افتخار وعنفوان ..
وعاودنا الكرة مرة تلو المرة .. وفي آخر رحلة وأنا أحمل صحن الكسكس الثالث والأخير لمحت عيني حبابي عيشة تجلس على عتبة كوخها الفقير
– شعاندك أحبابي عيشة ( حبابي في لغة أهل طنجة تعني أمي أو خالتي )
– والو أوليدي .. جالسة كنوكل وليداتي الحريرة بالخبز
– علاش كتاكلو الحريرة بالخبر .. والجامع عامر بالكسكسو والخير
– أوليدي راه جراو علينا
– شكون لي جرا عليك ؟
– الفقيه .. محمد العور
– علاش ..؟!
– قالي .. ولادك كلاو .. وحنا ما قسناه ولا شفناه..
تبادلت مع العربي نظرة سريعة ..ففهم قصدي بسرعة .. فوضعت الصحن بين يدها وجلست القرفصاء أنا وعصابة العفاريت وتناولنا الكسكس معها في الطريق العام ..وقمنا بترديد الأمداح التي حفظناها من المسيد قرعنا الصحون وأنشدنا :
– الله الله مولانا .. وعفو يا ربي علينا…
تجمهر حولنا الناس والجميع يستغرب منظرنا ونحن نكسر قاعدة ألفناها على مدى سنين ..
طار الخبر بسرعة البرق إلى المسجد .. وما هي إلا لحظات حتى وقف علينا الفقيه محمد الأعور والفقيه أحمد (معلم المسيد) وثلاثة من أعوان المسجد ..
– شنو هادشي كاتعملو .. واش مكتعرفوشي بلي ها الكسكسو صدقة ديال والديكوم للجامع
– واخا .. صدقة .. للمساكين .. ياك ؟
– إيوا ومن بعد ؟
– وحتى حنا ..عطيناها لحبابي عيشة وهي والعواول ديالا مساكين
– وكتقولها بلا حيا .. آ قليل الحيا .. وكتخرج فيا عينك .. الجامع هو لي كيفرق الصدقة ..
– شحال من طبسيل عندكوم .. والمرا مسكينة جات تاكل هي والعواول ديالا وجريتو عليها
– كيفاش جرينا عليها ؟؟!! … أنا عطيتا طبصيل كامل .. راه .. ها هو مازال خاوي قدامك آ الممسوخ ..
اكتشفنا أن المرأة المسكينة قد أخذت بالفعل صحنا كاملا وخبأته للغد وحاولت إطعام أولادها مرة أخرى .. ظل الجميع مشدوها .. ولم أتمكن في سني تلك من فهم نهم هذه السيدة الفقيرة ..
تطوع الفقيه أحمد وذهب للبيت ليخبر ابي بالواقعة وكنت أمشي وراءه وانا أترجاه الا يفعل .. لكن والدي خالفه الراي وعارضه النظرة
– سمع ى الفقيه .. واش باغيني نضرب ولدي فليلة القدر حيت وكل مرا مسكينة؟
– آ سيدي راه حنا وكلناها .. والكسكسو صدقة آ سي محم للجامع
– وا صافي صدقة صدقة .. مشات للي مكتابا ليه ..
لم يرضى الفقيه بكلام أبي .. فنظر إلي نظرة توعد وهو يزمجر بكلام .. تعودنا سماعه .. ثم مسكني من يدي والقى بي في وجه أبي .. فطلب مني والدي أن أقبل يد الفقيه وأن أدخل للدار.
استحسنت جدتي ما فعلته ..وكذلك باقي أفراد الأسرة .. فعطفهم على حبابي عيشة كان أقوى من العادات والتقاليد واهم من إرضاء المسجد ومسيريه.
وقف عبد الرحمن والعربي وحميد عند الشرفة يستفسرون عن النهاية فأخبرتهم بالتفاصيل .. ثم اتفقت بسرعة أنا وعبد الرحمن أن نبدأ في نقل الحلوى إلى الفرن على الساعة الواحدة بعد منتصف الليل .. على أمل أن نكمل الدفعة الأولى من الحلويات في تلك الليلة . فهمت منه أن ما سندخره من الحلوى للبيع سوف نخزنه في براكا بسطح بيته .. على أن يكون البيع ليلة العيد امام الفرن .
كان في حي فال فلوري فرنان أحدهما يسمى فران عْمروالآخر فران الحلوي. أما الأول فكان طيب القلب صعب المزاج قليل الكلام كثير الغضب إذا هاج أزبد كالبحر الوحش وإذا هدأ أكرم كالطائي المعطاء فيما كان الحلوي عكسه . رجلا محترفا قليل الكلام لكنه يسير بمخطط تجاري مرسوم بدقة ومفصل على مقاس الحي أهل واحتياجاتهم. وكنا نحن الصغارمن نقرر لمن سنحمل الصواني , نتخذ القرار رغم تشديد الأهل على هذا أو ذاك كل حسب آداءه وتجربتهم معه.
كانت جدتي تفضل أن ترسل صواني حلويات العيد لفران الحلوي فيما كنت أفضل أن أذهب بها عند عمي عمر لأنه أرخص فكنت أقبض من الأهل سعر فرن عمي الحلوي وأدفع سعرا أقل لعمي عمر .. كما أن فرص التسلية بالقرب من فرن عمر كانت أكثر فالزقاق الذي يوجد به بعيد عن السيارات الأمر الذي كان يسهل علينا تنظيم مباريات ليلية للكرة .هههههه الكرة ؟؟؟ قولوا جوارب مربوطة أو بقايا كرة بلاستيك محشوة بالخرق والورق والتبن.
– سمع والله يا باباك وجيبتيها محروقة حتى نحرقليك صبعانك.. ادي الحلوة لفران الحلوي .. سمعتيني ؟
– صافي آ العزيزة كوني هانية .. إن شاء الله ماش نعجبك
– هاك ها الفلوس . ومشي دابا وطيحهوم باش يطرحليك باباك سنانك
– وصافي . الإستعمار هذا؟ .. نحرق ليك صبعانك ! .. يطحلك سنانك ! ياك ما لقيتوني في الزبالة ؟!
ابتسمت رحمها الله ثم ضمتني إلى صدرها فالتصق وجهي بطرف من عنقها العاري .. كان ثوبها مبللا من فرط العمل والتحضير وكانت رائحة ماء الزهر تنبعث منها ممزوجة بعرقها المعطر بالطهر والعطاء والتضحية والحنان.. ضمتني وسألتني في همس
– فرحان غدا ماش تشوف ماماك
– فوقاش ماش تجي توحاشتها ؟ آ العزيزة
– إيوا هي ديما كتجي فالعشيا .. باش تبارك عليا .. بلحاق باباك ماش يديكوم عندها فالصباح كيف كل عيد
– مزيان ..
– شنو لي مزيان ؟
– لا . والو .. حيت أنا محتاج فالفلوس قبل الغدا
– سير الله يمسخك آ الممسوخ .. عقلك غير مع التضويرة .. بعد مني
أسرعت في حزم حذائي .. حذاء بالي مقطع من كل ركن وجنب احتار الإسكافيون وعباقرة طب التجميل في جمع شفاهه ولم شمل جلوده المتناثرة .. فلم يذكر والدي أنه رآني ألبس حذاء كما يشتهي لسبب بسيط انني كنت أمارس الإرهاب على الأحذية التي كان يقتطع ثمنها من سعر الطماطم والبطاطس والخبز اليومي ..و كان له صديق في مرتبة الأخ الشقيق يملك ورشة لصنع الأحذية .. فكان هذا العم رحمه الله يتولى مهمة الحضور إلى البيت في العشر الأواخر من شهر رمضان ويبدا في أخذ المقاسات لم يكن يسالنا عن نوع الحذاء أو لونه فالكلام في حضرة واسع علمه ممنوع .. كان يفصل ونحن نلبس وابي يدفع إذا سمحت له ظروف أجرته المتهالكة .. فيما كان هذا العم المسكين يتحمل الخسارة وهو يبتسم سعادة ونشوة.
**********
– سمع آ مسخوط .. خلينا نعملو راسنا ماشيين عند فران الحلوي من الزنقا التحتانيا ونقلبو عند عمر باش ما تعيقش العزيزة راها حلفات عليا
– مزيان .. باش يشبرونا في الزبالة ويوكلونا هاذ الحلوة عجينة.. آصحبي راه الف واحد حالف فينا تما ..
– آ عبد الرحمن .. العواول كاملين مشغولين هذ ليام .. شكون إلي دها فيك .. وزيدون إلا قربو جبد الموس .. وعري على كتافك آ القمقوم ..شكون لي كيخاف دابا ؟ ههههههههه هاذي هي الرجلة
كانت كلماتي كافية لتثير في نفسه ولعه بالتحدي بعد أدركت أنني بدات أتقن اللعب على أوتار عبد الرحمن ..كيف لا وهو زعيم عصابة العفاريت وساعدها المدمر وقوتها الضاربة .. كان حواري معه في ساعات الإنفراد يحولوني إلى عقل يبرمج ويتحول عبد الرحمن وهو مكره إلى مخرج لكل العمليات و وكم كنت أغضب لأنه كان يبالغ في القوة فيؤدي تهوره لمصير واحد لا شريك له هو الفلقة.
وقفنا عند فران عمي عمر ( بتسكين العين ) كان الباب مكتضا بل كانت فرصة الوصول بصينية الحلوى إلى الداخل أمرا في قمة الإستحالة, صواني في طريقها إلى الخارج وأخرى تمتد فوق الرؤوس , لم يكن الفرن يتوفر على إنارة كهربائية فكان عمي عمر يضيء فرنه البسيط بلامبة (فانوس) مما كان يضفي عليه عتمة سحرية لا نراها اليوم سوى في المطاعم الفاخرة..
فهل كان عمي عمر رومانسيا في فاقته وفقره أم أن العصر كان رومانسيا بالفطرة ؟
تمكنا من تسليم كل الصواني عندما شارفت الساعة الثانية والنصف صباحا .. ولم نتمكن من وضعها في المراتب الأولى رغم محاولاتنا المستميتة ..لكننا تسللنا بين الأقدام ونجحنا في الوصول إلى الداخل وانخرطنا مع جيش المتطوعين , نساعد هذه العمة ونحمل صواني تلك الخالة ونمسك بيد تلك الجدة العجوز..ونحن نصيح بأعلى الأصوات مقلدين مستخدمي الأفران
– فران عمي عمر المعقول والطياب على الجمر
– فران عمي عمر لي زارو ما يتقهر
– فران عمي عمر بحالو ما كاين في التحمار
– سكوت آراس الحمار
– الحمار وهو باباك .. عرف شكا تقول
– أنا كنقول التحمار زعما كيحمر ..
نبدأها نشيدا وننهيها ملاسنة فمعركة فحربا ضروسا ..فترتفع الأصوات ويكثر الضجيج فيحمل عمي عمر مطرحه ويبدا في هشنا كما البراغيث , كنا نعلم أن ضراباته لم تكن للمزاح أو التخويف فقد فطر الرجل عنيفا قليل الفطنة والتفكير
– خرج عليا هاذ ولاد الحرام ولا ماش نقتل شي ولد الـــ……ـبــة
– ما تزبلش آ عمي عمار .. راك باقي ما زكيتي على صيامك
– وراأني ماش نزكي بشي واحد منكم فهاذ بيت النار .. خرجو للعنق ديماكم ( يسب أعناق أمهاتنا وهو يقصدنا نحن )
نخرج ونحن نقلد لغته البدوية وهو في قمة الغضب والعرق يتصبب منه كالسيل فيضع خشبة كبيرة على مدخل الفرن ويدفع الجميع نحو الخارج ..فقد كانت فرصته السنوية التي ينتظرها ليعيد لنفسه الإعتبار .. فيومها كانت مهنة الفران في قعر التسلسل الإجتماعي رغم ضرورتها وحيويتها في مجتمع الخبز والشاي..فيومها لم يكن بالمنازل أفران غازية ولا مسخنات ماكروويف كان الخبز يخرج من النار وعبق الخشب يفوح منه .. كما هو الحال عيله اليوم في أرقى الأسواق الطبيعية حيث العودة للخشب والتطير من المأكولات الكيماوية أصبحت موضى العصر وضرورته بين الطبقات الميسورة ..
تناثرت في أزقة بال فلوي وحول الفرن الأخشاب واللأحجار والدكاكين الرمضانية المتنقلة فقد ألقى الباعة الموسميون بكل فرشاتهم الرمضانية وتخلوا عن مساحات وحدود تملكوها طيلة شهر بوضع اليد .. هدات الحركة حول المسجد وخدام المسجد , فرمضان كان لهم شهر رواج وصدقات ورزق ولم يبقى لهم من يوم بعده سوى يوم العيد وايام الجمعة..
– صافي آ المساخيط .. رمضان تسالا .. ( إنتهى ) دابا لي عندو شي حساب يصفيه
– وباقي آ البغل .. باقي العيد وثالث العيد ..
– أنا غير كانقول زعما .. شي بنادم كايشوف فيا . ياكما بغاني نردلو الحساب المأخر.؟!! ( مهددا)
– فرق الكارطا وسكوت .. الليل باقي طويل .. آرا ما نتحاسبو .. بنادم فيه غير الدقوم ( الدقوم في لغة أهل طنجة تعني الفم )
كان العربي يتحرش بحميد .. ومع عباراته أحسسنا أن رمضان بالفعل قد انتهى وعادت المشاحنة بين الأعداء ولاحت علامات الأيام العادية , أيام الملل ثم تخيلنا السكاري في أركان الحي المظلمة مع نهاية شهر التوبة..
كان مجرد التفكير في انتهاء شهر رمضان يعكر صفو مزاجنا فتتملكنا حالة من الإكتئاب القاسية لتتلاشى مع مرورالأيام والأسابيع فتهل علينا مناسبات أخرى ولكل منها طقوسه وعاداته.
لم تطل مرحلة الإنتظار كثيرا لكننا مططناها قسريا إلى حين الإنتهاء من مبارة في كرة الجوارب ( القدم ) كان اللعب في الظلام ممتعا ومسليا لكنه موجعا وخطيرا فكم كنا نتلقى من ركلات لست أصدق أن لا أثر لها الآن وكأنها خاصمت رجولتنا وأبت إلا أن ترحل مع تلك الطفولة الصادقة.
حملنا الصواني إلى البيت وكنا نعرج على ركن من سطح بيت عبد الرحمن فنضع على جانب محصول عملية السطو.. وكل أملنا أن تسير الأمور على خير .. كنا نختلف على عدد الحبات فقد كان عبد الرحمن شرها كريما وهو يسحب من صينية بيتي و مقترا محتاطا وهو يأخذ من صينية أسرته
– شفتي انتينا والله ما راجل
– آ سكت آ بنادم .. شكا تخور
– علاش زعما كترون ( تبعثر ) الصينيات ديالنا وديالكم كتعدلوم مزيونين ؟
– باراكا من الشك .. راه حنا شوراكا زعما آ صحبي
أدخلت الصينية الأولى والثانية على خير وسار الأمر كما خططنا له ثم أطلقت صفيرا من شباك المنزل فأجابني عبد الرحمن بمثله ففهمت أن أموره كذلك على مايرام ..
كانت جدتي مشغولة في عمل الرغايف وقد تحلق أخواتي حولها وهن يحتسين كؤوس الشاي فحاولت الإندماج قليلا في جلستهم النسائية الحميمية لكن كما العادة كان الطرد نصيبي المحتوم .. فقد كن على يقين أن جلوسي لن يكون لوجه الله وإنما للسطو على تنتجنه من رغايف وكذلك حفاظا على معجون اللوز الذي كن يستعملنه لحشو العجين.
– اليوم كيتسرحو مساكن
– شكون هما آ العزيزة ؟
– خوتك الجنون .. سير جيب لي بقا .. باش تدخل تغسل طرافك راك وليتي بحال البوهالي دشطية ..
– شكون هو البوهالي دشطية آ العزيزة .. ؟
– واحد كانو جنابو كياكلوه بزاف فحالك ..
بلغت الفرن فسلمني العامل آخر صينية .. تسلمتها وانطلقت نحو البيت أجري كان الأمر سهلا في غاية السهولة فحلوة الكوكو تلتصق ومهما أسرعت لن تتساقط فقد تعودت على التعاطي مع الصينية دون أدنى حرج أو خوف ..
دخلت البيت فكان الأسرة جالسة على مائدة السحور رغم أن الغد هو يوم عيد فقد كان والدي يصر على تناول آخر سحور .. ويدعو الله أن يعيده علينا باليمن والخير والبركات .. وكثيرا ما كان يشدد على أن يكون الجميع حاضر في آخر سحور رمضاني .. لسبب أدركته بعد أعوام فقد كان الحزن على فراق شهر الصيام عاما بين الصغار والكبار دون تمييز.
تلفت أبي ذات اليمين ثم سأل عن الحلوى وهو يستفسر عن سلوكي .. فأجابته أختي أن الأمور سارت على مايرام .. بينما تلفظت جدتي رحمها الله بكلام خافت .. كاد يمر مرور الكرام لولا أن طلب منها أبي أن تكرره
– ما فهمتش آ يما ..شنو قولتي
– والو..والو.. قلتلك الحلوة جات قليلة .. وصافي
– علاش ياك عطيتكم باش تعملو بزايد
– إيه بلحاق ( ولكن ) ما نعرف .. أنا جاتني قليلة
– جيب نشوف ..
أحضرو الصحون .. وبدات عملية المداولة .. وبين أخذ ورد اقتنع الجميع أن عمال الفرن سرقوا منها الكثير ..
– والو ما بقاو فرارن بحال الناس .. لا فران عمر مزيان ولا الحلوي مزيان كلهم هم واحد
– ما كاين موشكيل .. غدا انشاء الله نمشي نهضر معاه
ولم يذهب والدي يوم العيد إلى الفرن ..
ولم يسأل الفرن عن الحلوى .. لسبب بسيط وهو أنه فاجئني أنا وعبد الرحمن نجلس قرب شجرة الصفصاف ونحن نعرض بضاعتنا .. ولم تكد عينه تقع على اربعة صحون من أشهى الحلويات حتى اقترب مني ..
– ديال من هاذ الحلوة ؟
– ديال عبد الرحمن
– وهاذي ؟
– حتى هي
– وشكا تعملو بها هنا ؟
– كناكلوها ..
– كاتاكلو اربعة ديال الطباسل ؟
– كاناكلو وكانعطيو للمساكين
– المساكين ؟!!
وقفت في صحن الدار والكل ينتظر أجوبتي .. بعد أن اكتشفوا أن الحلوى هي خليط من بين ما صنعته أسرتي وأسرة عبد الرحمن .. وبعد التحقيقات توصلت كل أسرة إلى التعرف على منتوجها ..
وبينما كان عبد الرحمن في حالة فرار كنت أنا قيد الإعتقال .. كان الجميع يضحك على أجوبتي المتناقضة .. وانا أقف كفأر قطع ذيله ونتف زغبه.
طلب من والدي أن أقترب منه .. ففهمت القصد وادركت أنها الفلقة لا هروب منها سمعته يردد لا تخف ..لا تخف .. نظرت نحو الباب فكان مقفولا .. فقفزت من النافدة نحو الشارع وما أن وطأت قدمايا الأرض حتى أحسست بالأرض تدور بعد أن صدمتني عجلة هوائية فالقت بي على الأرض . فيما انبطح الرجل الذي كان يقودها نحو المنحدر.
تحسست رأسي فلم يكن هناك أثر للدم .. فحمدت الله على السلامة وانطلقت أجري نحو بيت عمتي .. لأصل البيت وقد انتفخت جبهتي ..
– أويلي ويلي ويلي شكون لي عملك الطنبوقة آ الزغبي
– فاين الطنبوقة
– شوف راسك اوليدي
صرخت عمتي وهي مذعورة ..
– ياك غير فالصباح شوفتك فداركوم ما كان فيك والو ؟!!
– ضربتني بشكليط
– إيوا ؟!!
– والو ؟
– ..
– شنو لي والو ..
كانت عمتي تسير بي نحو المنزل وقد وعدتني ألا يتعدى الأمر صفعة أو إثنتين .. لأن اليوم هو يوم عيد ..
عيد أحببت أن أؤرخ له بالطنبوقة ..أو البوقالا..فأسميته عيد الطنبوقة
اين هي الحكاية العاشرة الطبال المرفوع
إبتداء من الحكاية الثامنة، الروابط غير صحيحة، ويستحيل العودة لقراءة تلك القصص، المرجو من الأخ مصطفى الإنتباه لهذا الخطأ وشكرا،