بين العصر والمغرب سلسلة قصصية للصحفي والقاص المغربي محمد سعيد الوافي ، نظرا للنجاح الباهر الذي حققته . تعيد زايو سيتي نشرها لمن فاتته فرصة الإستمتاع بها
الحكاية الخامسة – الصائم الكذاب
كان عمري ستة أعوام عندما قرر أبي أن يشجعني أنا وأقاربي الصغار على الصيام للمرة الأولى وصادف ذلك يوم السادس والعشرين من رمضان من سنة 1968 , وكانت عادة أهل المغرب وربما لاتزال أن يحتفي الأهل بأول يوم لصيام صغارهم .. جمعنا وكنا ثلاثة أنا وابنة خالتي سميرة وأخوها حسن.
– هاذي خمسميات فرنك(5 دراهم) ..إلى كملتو نهار ديال الصيام غدا ..غادي تربحوها وشريو بها لي بغيتو
– ما ناكلو والو ..؟
– والو
– وإلى جانا الجوع
– إلى جاكم الجوع .. خصكوم تصبرو ولا نعسو
– ههههه حتى الما ما نشربوهش ؟
– والو حتى الما ما تشربوهش
– ويلا متنا بالعطش؟
– غادي تشربو ملي يودن المغرب
– وشكون لي يربح الأول
– كلكم إلا بقيتو صايمين ..الفلوس ديالكم
– واخا .. أنا غا نصوم
– حتى أنا ..
– وأنا
– يا الله مشيو تلعبو .. او وجدو راسكم باش تنوضو تتسحرو معنا
– معاكم ..!!؟؟ هييييييييييييي مش نتسحروا مع الكبار
قلبنا البيت رأسا على عقب , كنت أصيح مثل المعتوه وأخبر الجميع أن أبي أمرنا أن نصوم غدا ..أخبرت جدتي وأمي وكل أهل البيت ..فاستغربت والدتي رحمها الله ..وتغيرت ملامحي وجهها وهي تسال ابي
– بصح غتصومهم غدا
– وعلاش لا .. الوليدات كاملين كيصومو يوم 26 .. ما فيها باس إلا جربو باش يتعلمو
– وكيف غادي يكملو النهار؟ .. الله يهديك العواول باقيين صغار على الصيام .. صومهوم نص نهار وفطرهوم مع الظهر
– لا. لا .. الصيام نهار كامل
حاولت جدتي أن تقنعه بأن الأمر سيكون صعبا علي لأنني ضعيف البنية ( قليل الصحة ) لكنه أصر على قراره وكـأنه على موعد مع قرار تاريخي سيؤرخ به لحدث هام في حياة إبنه البكر..بدأ الدلال والدلع وبدا يحكي لنا عن فوائد الصيام وضرورة أن نحس بما يحس به الفقراء ممن لا طعام في بيتهم ..لم نستوعب كل حديثه, لكنني لا أزال أذكر كلامه عن ليلة القدر .. الليلة التي أنزل فيها القران..تحلقنا حوله وهو يستعد للذهاب إلى المسجد
– شوفو دبا تفرقو مني .. سرو تلعبو باش تنعسو وتقدرو تفيقو للسحور
خرج أبي من البيت في إتجاه المسجد فيما جلسنا نحن الثلاثة لنخطط لموضوع الخمسة دراهم .. مسكنا خمسة قطع من الحجر وبدانا عملية القسمة .. لكنها لم تكن عادلة
– حنا ولاد ناخدو جوج ونتي بنت تاخدي واحدة
– علاش .. إيوا .. حنا ماش نصومو بحال بحال
– إيه ولكن حنا رجال ونتي غير بنت
– وخا نكون بنت ..
انطلقت سميرة تبكي وتشهق وتنوح ..فلحقت بها وهي تحمل شكواها لجدتي
– آ العزيزة .. شفتي شنو قالو لي ..
– آش قالوليك أبنيتي
– هما يديو 200 فرنك وأنا 100
– واخا .. إنت بنيتا وهما ولاد والولاد ديما كيخدو كثر .. حيت هما رجال
– لا…هاذا التعدو .. والله ما نصوم
– آجي آ الحبيبة .. نتي قوليلهوم واخا ..وأنا ماش نعطيك 100 زايدة باش تكوني بحالهم
عادت مسرعة وهي تطير فرحا .. وحدث إتفاق مبدئي على أن تصوم بشرط أن تكون القسمة كما قررناها نحن الأولاد ..تداولنا فيما بيننا أمر هذا الجوع طول النهار .. لم نكن ندرك أي معنى لما ينتظرنا .. وانزوى كل منا في ركن من الغرفة يخطط لما سيصرف فيه ثروته غدا..أما أنا فقد قررت أن أشتري صفيحة من شكولا طة ماروخا كاملة ..فيما قالت سميرة أنها ستشتري جابان والكاوكاو ولائحة من أسماء الحلويات التي لا أذكر إسمها .. أما حسن فكان مخططه شراء كرة .. وبعد لحظات بدانا نتداول أمر الشراكة فيما بيننا ..إقترحت أنا أن نشترك في الحلوى والشوكولاطا والكرة .. قررنا أن ننزل عند محماد البقال لنسأله عن ثمن الأشياء التي نود اقتناءها غدا .. لم يكن الدكان يبعد عن البيت سوى بضعة أمتار ..
– آش بغيتو ؟ سربيو ؟
– بشحال ماروخا ؟
– 100 فرنك
– والكرة الصفرا ؟
– 150
– والخنشة د كاوكاو ..وخنشة ديال حولة ناطا ؟
– سربيوني .. يا الله .. سيرو
– آ محماد ..غذا .. ماش نجيبو الفلوس .. وعقل .. عقل فيها
– سيرو وغدا يرحم الله
قضينا معظم الليل نطرح ونجمع ونحسب ونعيد الحساب من جديد ..لم نقكر في اللعب أو المرح .. كان كل همنا هو أن ينتهي الغد ونستلم المال..
أذكر أنني نمت على (سداري ) بغرفة الجلوس وكانني أنام فيه لأول مرة في حياتي
– نوض للبيت لاخر ونعس
– لا .. انا مش نفيق للسحور ..
وبين الغفوة واليقظة .. أحسست بأمي وهي تحملني نحو الداخل ..سمعتها تتداول مع جدتي أمر هذا الرجل الذي قرر أن يرغم الأطفال على الصيام
– عملو خاطرو .. قلول واخا .. غذا إلى جاعو وكليهوم بلا خبارو
*******
أدركت وأنا في تلك السن المبكرة أن أبي وبكل جبروته لم يكن أقوى من جدتي, فهي الوحيدة التي لم تكن ترضخ لأوامره ..بل وكانت ترغمه على الإذعان لها وهو صاغر ..أذكر أنها صفعته مرة بسببي .. جاء ليصالحها بعد أن ضربي فكان نصيبه الضرب .. فترك الغرفة وهو في قمة الغضب فيما كانت رحمها الله تلاحقه وهي تصرخ
– نضرب باباك .. مرة وجوج وثلاثة ..ويلا كانعرفك راجل أجي مد\ يدك عليه
كانت جدتي عزوتي وقوتي وورقتي الرابحة .. كانت تكرر دائما على مسمعي عبارته الشهيرة
– راه آ ولدي ما عز من الولد غير ولد الولد
كنت أفتخر بتلك القوة ولم أفرط ابدا في محبتها وحبها وطاعتها ( قدر ما كنت أستطيع ) كنت أنام معها وبعد طلاق والدتي من ابي بسنوات طويلة لم أفارقها ابدا .. بل كنا نتناوب أنا وأخواتي على من ينام مع جدتي جهة اليمين وجهة اليسار ومن يكون نصيبه الطرف الآخير.
حقبة على قدر ما أحبها على قدر ما أتجنب تذكرها لكنها رغما عني تفرض علي فصولها في كل مرحاة من مراحل حياتي
أعود بكم قرائي الكرام لساعة السحور ..
– تبارك الله على الرجال ..لي ماش يصومو
– حتى أنا آ حبيبي الوافي رجال ..وخا أنا عايلة ( بنت )
– نتي الحبيبة ديالي .. غادي تصومي معاهم .. وبغيتك تغلبيهوم
– لا.. لا .. أنا لي غانغلب
– لا أنا
– أنا
– صافي .. كلكوم .. غالبين ..سكتونا وخاليونانعرفو فين كيطيح الشدق.. الله يهديك ى ولدي باراكا علينا من الصداع ..الليل كلول وهما كيبنيو ويهدمو ..لله إيما تريحنا من صداعهم ..
طلب مني أبي أن امضمض فمي بعد شرب الماء وأن أضمر في نفسي نية الصيام .. رددت من وراءه ما طلب مني قوله .. ولم افهم حرفا واحدا من كلامه ..
دخلت فراشي فكنت أنام على طرف من السداري فيما كان حسن ينام على الطرف الآخر بينما افترش الآخرون الأرض .. وفي الركن الآخر من الغرفة كانت تنام جدتي بعد أن انهكها الصراخ وهي تحاول إسكاتنا .
أشرقت شمس طنجة ذلك الصباح وألقت على شجيرات الصفصاف أشعتها الذهبية فامتزج جمال الطبيعية بروحانية اليوم العظيم ..جلسنا على عتبة البيت ونحن نتسلى برؤية سكان المدينة وهم في طريقهم إلى مقبرة المجاهدين للترحم على أمواتهم .. وهم يحملون بأيديهم ربطات الريحان وقللا من الماء .. أذكر أننا كنا نحتسب الرجال لحسن والنساء لسميرة والأطفال لي وهكذا نتسابق من يكون رصيده الأعلى .. فكلما ظهر رجل في أسفل الشارع صاح حسن فرحة ونشاطا وكذلك الشأن مع بروز أي طفل .. بدا اليوم يستكمل شبابه ونحن بعد لم ننتبه لبطوننا الخاوية .. انخرطنا في اللعب والجري وتسلق الأشجار .. وما هي إلا ساعات حتى بدأت شفاهنا تيبس .. وقد اصفرت وجوهنا ..
كان الوقت عصرا عنما جلسنا تحت ظل شجرة صفصاف كبيرة .. وبدانا نتداول أمر الماء .. تحدثنا عن المياه بكل أنواعها .. الباردة منها والمبردة .. تحدثنا عن الشلالات والأنهار .. وكلما كنا نستفيض في الوصف كانت رغبتنا في جرعة ماء تزداد ..تذرع حسن بأنه سوف يرش بعض الماء على رأسه لكي يخفف من العطش فاستحسنا الفكرة وقلدناه ..وفي لحظة إلتقت عيني بعينه فرأيته يبلغ الماء ..صحت في وجهه وأنا لا أكاد أصدق نفسي
– فاطر .. فاطر
– لا ..والله ما فاطر
– كذاب .. شفتك كتشرب
– ها ه شوف لساني بيض
– فاطر ..فاطر
اسرعت للبيت وكان أبي يصلي العصر فأخبرته بأمر إفطار حسن .. فالتحق بي هذا الأخير وهو يبكي ويصيح متظلما .. كنت على يقين أنه شرب الماء .. كما كنت على يقين أنني شربت كذلك .. والوحيدة التي لم تقرب الماء لفمها هي سميرة بل أكاد أؤكد وانا في سني اليوم انها الوحيدة التي صامت يومها
انتهت المعركة بالمصادقة على إعتبار صومنا مازال قائما ..وهذه المرة جاءت التزكية من جدتي
– الما ما كيفطرش العيال (الوليدات ) الصغار ..إلا شربو بالغلط ..
فاعترفنا لها أنا وحسن أننا شربنا .. ههههههههههههه بالغلط ….ونحن على يقين بأن الأمر عكس ذلك .. فيما كانت سميرة قد استلقت على الفراش في انتظار آذان المغرب
تسللت أنا إلى غرفة المؤونة ( خزانة الأكل ) ..وتأكدت أن الباب محكم من ورائي ..فتحت مطربان التمر والتهمت منه ما استطعت كان الجوع قد بلغ مني درجات لا تطاق ..ولم أعد أقوى عليه.. رأيت حسن من الشباك فمسحت فمي بسرعة واختبأت تحت الطاولة .. وما هي إلا لحظات حتى أحسست به يفتح باب الغرفة المظلمة سمعته وهو يأكل التمر والخبز .. فلم اقوى على التحرك ..خشية أن يتفطن لوجودي ..وفجاة فتح الباب فغمر الغرفة الصغيرة النور وإذا بجدتي تصيح
– بسم الله الرحمن الرحيم ..شنو كتعملو هنا الجنون ..ويلي ويلي استغفر الله عليها كلمة .. علاش اوليدات هاذ التكرفيس .. علاش الفساد .. ملي باغيين تاكلو
– لا ..آ العزيزة ..حنا صايمين
– لا باينا أوليداتي .. صايمين
بدأنا أنا وحسن نتهم كلانا بأنه غير صائم .. وبين صراخ وبكاء وتوسل قررت جدتي أن تطلق سراحنا وأن تقول بأن صيامنا لا يزال ثابتا ..أكدنا عليها أن تخفي الأمر عن أبي .. فالقضية فيها خسارة مادية فادحة ولربما تذهب الخمس دراهم لسميرة ..
أبرمت أنا وحسن إتفاق شرف ألا يفضحني وألا أفضحه وإلا سنخسر المال ويذهب كله لسميرة .. التي كانت تغط في نوم عميق في انتظار آذان المغرب..
جلسنا على طاولة الإفطار ..ضربات المدفع..
سأل أبي جدتي وأمي عما إذا كنا قد صمنا .. فلم يتلقى أي جواب منهما .. حاول تفحص وجه أمي فاطلقت رحمها الله ضحكة .. ففهم على إثرها المعنى..
كان قلبي يدق وأنا أرتجف ..
– فتح فمك
– هاااااااا
– وافتح أنت …قل .. آآآآ
– آآآآآآ
– بجوجكمو فاطرين ..
– لا والله العظيم .. العزيزة قالت حنا صايمين ..
– سمعوني مزيان .. لي كلا فيكم الشباكيا راه فاطر .. ولي ما كلاهاش صايم .. انت شنو كليتي
– أنا كليت غير التمر والخبز
– وحتى أنا
– أنا آ حبيبي الوافي ما كليت ولو .. والله العظيم ( صاحت سميرة )
– عارف آلحبيبة
– المهم راكم .. كلكوم صايمين ..
صدقنا أننا صمنا .. فيما كان الكل يضحك .. واستلمنا الجائزة .. وأعطينا لسميرة درهما واحدا .. رغم انها الوحيدة التي صامت ..
اليوم وبعد سنين عمري الطويلة وكلما طرح للنقاش موضوع إمامة المرأة وتقواها وصلاحيتها للقضاء .. أفضل ان اسكت .. ربما خوفا .. أو خجلا .. لأنني خسرت أول معركة في التقوى ضد طفلة تحملت عبء الصيام ليوم كامل وهي بعد في عمر الخامسة فيما أفطر من أطلق عليهما المجتمع إسم الرجال
ههههههههههههه
شكرا على متابعتكم أعزائي ,إلى اللقاء غدا مع حكاية او فضيحة أو فلقة جديدة.
hikaya rae3a wazadha raw3atan 3afwiyat alkatib fi sard machalaaah
مقال لايخلو من ايجابيات وسلبيات في مجال التربية
الايجابيات: اذكاء الروح التضامنية وتهذيب النفس في رمضان
السلبيات : النفاق الاجتماعي حيث انه في غياب الحرية تغيب الصراحة من جهة و شراء ما هو روحاني مقابل ما هو مادي من جهة اخرى. هل فكر الاب في جزاء الاطفال مليا قبل ان يختار 5 دراهم كمقابل؟
مداخلتي ليست موجهة ومشخصة في كاتب المقال الجريء بقدر ما هي تعبير عن واقعنا المزيف والناتج عنه زدواجية الاخلاق