محمد سعيد الوافي
رمضانات مغرب الأمس (سيرة ذاتية)
الحلقة الرابعة : الجارة “حبابي ماريا”
كان أهل طنجة القدامى في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي يربون أبناءهم على احترام الجار أيا كان هذا الجار مسلما يهوديا أو مسيحيا , تقبيل يده عند مروره , مساعدته في حمل الأثقال .. وما كان يسري على الجار كان يسري كذلك على الجارات .. اللواتي كنا نناديهن باسم ” حبابي ” .. حبابي فاطمة , حبابي ميمونة ليهودية , حبابي ماريا المواكني .. ولم يك بيننا من يستطيع التطاول على أي منهن أو بناتهن.
أما نحن الذكور فكنا عبارة عن علبة مغلقة تضم مجموعة العفاريت أو الشياطين , أولاد السوق , كل جار كان يختار لنا إسما أو مسبة تليق بما يكنه لنا من كره ومحبة.
كان شعارنا الشارع لنا .. والبيت مقدس. والشكام ( الجاسوس ) بينا يمشي بجهنم ..
علمت من أحد أصدقائي في المدرسة أن حبابي ماريا ستحضر حفل زفاف بالبوليفار وأن العروس من أسرة يهودية طنجاوية معروفة وبحكم أن حبابي ماريا كانت برتغالية تأصل و مسيحية الديانة في السابق فقد كانت تربطها علاقات خاصة بالجالية البرتغالية والإسبانية بل واليهودية الغنية . وكانت طنجة في ثقافتها العالمية يومها تزخر بتعايش ديني لم تضاهيه عاصمة أو مدينة من مدن ودول الجوار.
كانت المعلومة تقول:
” حبابي ماريا قالت لختي عبلة بلي هي معروطة ( معزومة ) لعرس جافال فالبوليبار وأنها تحتاج لأطفال لكي يصطفوا ويحملوا الشموع وراء فستان العروس .. وأن الأمر هناك راقي والأكل حلال حلال حلال و التعويض لن يقل عن 5 دراهم لكل طفل من جنس البشر.”
—————-
خمسة دراهم .. يا آ الله .. كانت ثروة يومها .. ولكن لكل الشرط كان صعبا : ” طفل مؤدب يشارك في مراسيم الزواج وهو يرتدي بذلة بيضاء وشعره مصفف وفي المقابل نفس العدد من الفتيات .. يعني أن فرصة العمل هاته يمكن أن تكون جائزة لأي من المخلوقات على وجه الكرة الأرضية إلا لنا نحن أنا وعبد الرحمن وعبد اللطيف وأحمد.. لأننا كنا في قمة إنجازاتنا وعملياتنا الإجرامية الطفولية لا تتجاوز حي بال فلوري وفي حالات قليلة حي ” الدشارجديد ” . ولم نعتقد أن أي إنسان عاقل سيدخلنا الى مكان فيه عروسة وعريس وأكل وأريستوقراطية ومشروبات ومعجنات .. ونحن الذين كنا نقول للبلا : طير فسنطير معاك ووراك
وضعت الخطة .. و تقدمنا الى منزل حبابي ماريا ونحن نحمل بعض الفؤوس والمكنسات , وادعينا أننا جئنا لنعمل ضمن نادي خدام الحي وأننا اخترنا أن نبدأ بكنس ورش وتقليم أعشاب حديقتها الغناء .. صدقت المسكينة الإدعاء وفتحت لنا بيتها فقمنا بالواجب بكل إتقان .. انبهرت حبابي ماريا بعملنا وصدقتنا قولا وفعلا أننا تغيرنا وأصبحنا أطفال صالحين ..تائبين .. بعد أن أهدتنا ما لذ وطاب من الشوكولاتة المستوردة..
– سمعنا أحبابي ماريا بلي بغيتي الأطفال يمشيو معاك للعرس
– أنا .. يقول .. ماشي هاد الهضرا .. أنا يقول يمشيو يخدمو ويربحو 500 فرنك كل واخد هما
– وحا حنا موجودين آ حبابي ماريا .. وانتينا عارفة رمضان والحالة ميتة ..
– أنا يحلفو انتوما بلي ماشي بسالا فالعرس
– ما شي بسالة .. بسالة والو حبابي ماريا .. خدمة .. خدمة .. خدمة
بدأ عبد الرحمن يرقص وهو يغني
– حبابي ماريا .. خدمة .. خدمة .. خدمة
– ولكن آ صاحبي عندك تعوروها راها والله حتى تشكي بنا .. وانتوما عارفين
– وصافي آ صاحبي .. دابا أنا المشكل هو الطراخي ( بذلة ) بيط ( أبيض ) ما عنديشي
– وا الحمار وهما مش يفصلونا الطراخيات ( البذلات ) فابور ويزيدوك 5 دراهم آ …..
– وما تزبلشي أ الحمار ..
– الحمار هو باباك آ ………
– وصافي آ صاحبي لعنو الشيطان رمضان هذا .. كلس آ صاحبي نفكرو شني ماش نعملو .. الموشكيلة هي الماكلا والو .. قالتلك 5 دراهم تشبروها وتغيبو ما يشوفكم حتى واحد تما .. يعني لا ما لا نعمة
– آ نا بعدا و الله حتى ناكل .. يما ( أمي ) قالتلي الماكلة دليهود حلال ولذيذة
– وحلال .. آ صاحبي .. نعاس ففراش النصراني وكول ماكلة ليهودي
– عندو الصح .. حلال .. علاش ما ناكلوشي ..؟؟ إلى جبرناها والله ما تفلت
– واشكون قاللك مرحبا .. آ الحمار .. هو كيقولك ما كاينا ماكلا .. خصنا نغبرو فالباب دجاماع ديالوم
– كيفاش؟؟
– ملي نخرجو من باب دجامع دليهود ما خاصناشي نطلعوا للبارطمان الي غنقيسو فيه الطراخيات ( البذلات ) من الجامع لبال فلوري
– الموهم آ الدراري .. ما كاين لا هاك ولا هاك .. كلشي بالأدب والصواب باش ما نجيبوهاشي فراسنا
—————-
كان الصباح الباكر في شهر رمضان فرصة سانحة لكي يتجول بعضنا في البيت ويكتشف أماكن تخزين الحليب المجفف والمربى والكوكو المسحوق والزبيب والتمر والبريوات وكل ما كان نساء البيت يعملن على تجهيزه لصنع الحلويات خلال ليالي رمضان الكريم.
خرجت وأنا أتثاقل نوما كسلا فألقيت بحجر صغير على غرفة نوم عبد الرحمن وفي الحال سمعت الصافرة ففهمت أنه آت كنت أحس يتعب فقد استيقظت يومها من النوم مبكرا على الرغم من كونه يوم عطلتنا الأسبوعية .. قضيت الليل ساهرا أحلم وأخطط كيف سأصرف الخمسة دراهم التي سأتقاضى مقابل ذهابي إلى البوليبار مع باقي رفاقي بكنيس اليهود لكي نرتدي البدل البيضاء ونحمل الشموع ونقبض المال ونندثر
تم إدخالنا نحن الأربعة الى غرفة أنيقة وأضافوا إلينا إثنين لا نعرفهما كان أحدهما إيطاليا طنجاويا والآخر إين أحد الأغنياء .. لم نتمكن من الإقتراب منهما لأنهما كانا يبدوان من سلالة إنسانية أخرى لا علاقة لها بانتمائنا العرقي البشري .. طبعا التزمنا الهدوء في انتظار أن يطلبوا منا أن نخرج مع العروس .. أقسم الجميع أننا صائمون وأن لا أحد بيننا يجوز له أن يرفع فستان العروس للنظر الى ما تحته .. فالصيام إذن هو الحل لتجاوز مخاطر أن يفعلها عبد الرحمن وكان أكبرنا سنا. ثم أقسمنا كذلك أن أي شيء نغنمه بالأدب والهدوء هو وزيعة بيننا جميعا بالعدل .