بقلم : حسناء القادري
خرج الرجل المتسلط من العيادة محطما ، استند الى الجدار لحظة قبل أن يواصل المسير متسائلا عما حل به وما آلت اليه أوضاعه الصحية، وهو الذي كان بالأمس ” البطل المغوار” الذي يهابه الكبير والصغير ، الغني الثري الذي لا ينازعه في ثرائه أي أحد.
واصل المسير متباطئا وهو يتذكر قول الطبيب له من أن حياته أصبحت على المحك، وأنها أيام قلائل ثم يغادر هذه الدنيا، فلم يفكر لا في أمواله ولا في مدخراته ولا في كل ما يملكه، لأن ما من شيء سيعيد اليه صحته وعافيته، ما من شيء سيمنع رحيله، لكن ربما غيرت هذه الافكار نظرته الى الحياة والى المحيطين به على الاقل.
وصل منزله راضيا بقدره، التفت الى زوجته لأول مرة ثم هوى على الأريكة ، اغمض عينيه لحظة ثم طلب منها أن تجلس الى جانبه. فقالت وهي مستغربة:
-ماذا هناك…ماذا بك ، اخبرني ؟
اخذ نفسا عميقا قبل أن يخبرها قائلا:
-انا اليوم انسان مريض وغدا جثة هامدة ، لذلك أريدك ان تسامحيني على كل تصرف سيء قمت به ازاءك فلقد كنت انسانا احمقا متهورا وانا أركض خلف جمع الأموال، وها أنا اليوم أسائل نفسي وادعو الله ان يسامحني.
-بالله عليك ماذا تقول ؟ لا تيأس هكذا ،ستشفى بإذن الله.
-رد قائلا: ما أظنني سأشفى فلقد تمكن مني المرض ، ولم أعد أستطيع مباشرة أعمالي، لكني أفكر في أن أتصدق بشيء من المال عل هذا العمل يخفف من احساسي بالذنب تجاه كل من آذيته. كانت زوجته تنظر اليه بذهول وحيرة كيف غير المرض تصرفاته .
في اليوم التالي، شوهد وهو يخرج من المسجد مواظبا على صلواته، ألقى التحية على معارفه ، ثم توجه بعد ذلك الى أحد عماله في التجارة كان قد اشتكى اليه ديونه، فناوله مبلغا ماليا ثم انصرف، مما جعل التاجر يحتار غير مصدق لما يراه، متسائلا أهذا هو الرجل المتسلط الذي عنفه ذات يوم أم انه شخص آخر؟.
ولكي يضاعف-بطلنا- من عمل الخير قام بزيارة احدى دور الأيتام ودارا للعجزة قبل أن يكتب منزله باسم زوجته ويبيع السيارة أيضا وينفق مالها في عمل خيري آخر، حتى لم يترك غير مبلغ ضئيل ثمنا لعلاجه.
مضت الأيام وحان موعد العودة الى الطبيب كما طلب منه ، في طريقه اليه، وابل من الحوارات الداخلية شغلت ذهنه وسيطرت على كل تفكيره ، ما الذي يمكن أن يصرح به الطبيب؟ وكيف هو تطور المرض لدي؟ وهل سأشفي أم أن هذه آخر مرة أزور فيها طبيبا؟
من شدة خوفه وهو يصعد الدرج، أحس وكأن ركبتيه قد تصلبتا وما عادتا تقويان على حمله، جف حلقه وبردت أطرافه حتى ظن أن الموت قد بدأت تسري في جسده ، لاذ بالصمت في قاعة الانتظار وهو ينظر في الوجوه دون ان يتبين ملامحها ، وتذكر أنه مهما بلغ المرء من الصحة والعافية لابد وأن يأتي يوم يمرض فيه ويفقد بعضا من نشاطه ، ومهما بلغ من الغنى والثراء مبلغه سوف يسلب منه ان آجلا أم عاجلا ، فلا شيء يدوم .
نودي عليه فقام مفزوعا يحمل بعض الأوراق في يده اليمنى، أحس وهو يلقي التحية على الطبيب بالتوتر وتمنى أن يمر اليوم بسلام. أشار اليه الأخير بالجلوس ثم طفقا يتحدثان:
-قال الطبيب:
لم تتغير كثيرا وقد مضى أسبوعان منذ التقينا
-بلى يا دكتور ، لقد تغيرت كثيرا…حتى أن حياتي أصبحت بلا هدف.
-ولم كل هذا التشاؤم؟
-وكيف تكون حالة شخص مهدد بالموت في كل لحظة؟
– دعنا على الأقل نرى مدى تراجع أو تحسن حالتك الصحية، لكن قبل ذلك قم بإجراء تحاليل طبية أخرى ثم نحكم بعد ذلك.
في اليوم التالي، عاد الرجل المتسلط وقد أتعبه الوضع ، وأنهكه التنقل جيئة وذهابا حتى تمنى الموت قبل أوانها. دخل على الطبيب مجددا وفي يده التحاليل.
-جلس لحظة… ثم بادر الطبيب بالكلام قائلا:
-يؤسفني القول …أن حالتك لم تتحسن قط وأن جسمك لم يستجب للعلاج
– والمعنى يا دكتور؟
-المعنى واضح…وانت تعرف .
-وهل هناك أمل بتناول دواء جديد؟
-أظن ان الدواء الذي وصفته لك منذ البداية ، كفيل بان يحدد لنا مدى تحسن أو تدهور حالتك
-يعني لا أمل في النجاة؟
هنا بادره الطبيب بسؤال مفاجئ وقد دنا براسه اليه كي يُسمعه سؤالا:
– ما هو شعورك وانت تفكر في الموت في هذه اللحظة، أجبني؟
– تردد قليلا ثم أجاب : أنا ايها الطبيب انسان منهار… محطم… يائس… بائس… ميت.
ويا ليتك مت فعلا.
قالها الطبيب بملأى فيه بحيث جلس أمام المريض وجها لوجه… ثم ساد صمت رهيب ليحف المكان … تبادلا النظرات فاستغرب الرجل المتسلط حالة الغضب التي انتابت الطبيب وأسلوب كلامه.
-لقد استغربت ردة فعلي مع أن الاطباء عادة لا يتصرفون بمثل هذا التصرف أمام مرضاهم بحكم اخلاقيات المهنة اليس كذلك؟ ولكني اعتبرها حالة نفسية انتابتني وأنا أتذكر ابني الذي مات بسببك .
صرخ الرجل المتسلط مذعورا وقد جحظت عيناه الى درجة ان لسانه انعقد وهو بالكاد يتكلم:
-ما…ممم…ما…ماذا تقول؟
نعم…أنا والد الطفل الذي صدمته بسيارتك عندما كان الاخير عائدا من المدرسة…هل نسيت…؟
ها نحن اليوم نلتقي…لأذكرك.
يتبع..
حسناء القادري تكتب.. الرجـــل المتســـلـــط —الجزء الأول—
حسناء القادري تكتب ..الرجـــل المتسلـــط – الجزء الثــــاني –