د.كمال الدين رحموني
حقا، لقد كانت المجزرة أفظع، والمذبحة أبشع، ولكن التداعيات جاءت بشكل أروع. ومنها الظنُّ والظنُّ أحمدُ، أنّ الأبرياء الذين سقطوا في بيت أذن الله أن يُرفع ويُذكر فيه اسمه، قد تكون سبقت لهم من الله الحسنى وصاروا – إن شاء الله- شهداءَ، والشهداءُ أحياء عند ربهم يُرزقون.
ومن تداعيات الحدث الحميدة، كيف تحرٌكت فطرة القوم، وكيف انتفض ضمير شعب بأكمله، للتعبير عن الذهول لهمجية الحدث، ولفظاعة الفعل، ولكن -أيضا- لتجسيد معنى الإنسانية الذي يشترك فيه بنو البشر . فبقدر الحقد الذي غلّف ضمير إرهابي قاتل تغذّى على الضغينة والكراهية، بقدر ما لمعت صفحة مشرقة في سماء زيلاندا الجديدة، وكأنها باسمها في خضم الحدث أرادت أن تكشف عن الجديد فيها، والجديدُ معدن شعبها، حين احتَفت بإنسانيتها النبيلة على طريقتها الخاصة، ولو برقصات شعبية تعبيرا عن الحزن عن موت الأبرياء، وحين احتفّت بأرضها صور الاجتماع الإنساني على إظهار التعاطف وتقاسم المأساة.
وهل تداعت مشاعر الناس لهول الحدث بهذا الشكل، إلا حين صفت السرائر، فلم يَعُقْها حاجز الانتماء للدين أو اللغة أو الوطن. لقد كان التفاعل الإنساني في هذا البلد حدثا جللا بحجم جلالة الفاجعة. لا يُخفي المرءُ سرًّا مع متابعة الحدث منذ يومه الأول حجمَ الذهول من جهة، وقدرَ التعجب من جهة أخرى، مع كثير من الأسئلة الملحّة المحرجة، ومنها:
1. من أين لهذه الجموع من شعب لا تربطه بالضحايا رابطةُ دين، ولا هوية، ولا عُرْف، أن تتداعى برسمِيِّيها وعامّتها للتضامن، بل ولتقاسم المعاناة الرهيبة؟
2. من الذي جعل دموع رئيسة الوزراء تنساب انسيابا وجعل أسارير وجهها تعلوها مسحةُ الألم العميق؟ ومن الذي جعلها تتوشّح بلون السواد الموحي بدلالات الحزن الكاسر والجرح الغائر؟
3. من الذي أتاح فرصة فريدة لآيات الله لتُتلى في افتتاح جلسة مؤسسة تشريعية أجمع أعضاؤها على استنكار الجرم البشع؟
4. من الذي جعل النداء الرباني لصلاة الجمعة يخترق وسائل الإعلام مباشرة في دولة غير مسلمة؟
5. من الذي جنّد شعبا برجاله ونسائه وأطفاله لحضور شعيرة الجمعة والإنصات لخطبتها والتجاوب مع مضامينها بالتصفيق؟
6. من الذي أوعز لنساء هذا البلد بارتداء أغطية للرأس والوقوف إلى جانب المسلمات في مشهد مهيب والدموع تنهمر على وجوههن؟
7.من الذي جعل طفلا يافعا يقذف رأس رجل بحبة بيض احتجاجا على عنصرية وغد؟
إنها آية أخرى من آيات الله عنوانها العريض،قوله تعالى:” لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم”. وقوله عليه السلام :”إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلّبها كيف يشاء”.
إن الذي شرح صدور هذا الشعب الكريم، هو رب العالمين، خالقُ الناس أجمعين، العالمُ بخبايا النفوس،ومغاليق الأمور، الذي فطر الناس على الخير، فمهما ران الشرُّ على القلوب، فيبقى فيها من الخير ما تعلو ملامحه وتنبعث من عقال التخندق المقيت، والعصبية الآسنة، والعداوة الشائنة لطبع الإنسان.
لقد قدمت رئيسة الوزراء الدرس البليغ لكل العالم في التسامح، والتعايش، والإحساس المشترك، والنظر إلى الإنسان باعتباره كائنا محترما صاحبَ حقوق لا تتجزأ، وكرامة لا تُداس، وقدْر لا يُهدَر، وانتماء لا يُنكَر.
هي لفتة بمثابة تحية من شعب امتلك من حياة الضمير ما يستحق ردّ التحية بأحسنَ منها.