فوزية لهلال
ما إن احتضنتني مقصورة المترو هذا الصباح، حتى مسحت عيناي الوجوه في فضول.. وللأمانة، فقد بقيت نظراتي معلقة ومن طرف واحد، فمعظم الركاب اختاروا الغوص بين دفتي كتاب، وكأن المقصورة تلقت للتو أمرا بالقراءة، النظرات تلتهم الأسطر في نهم، يستهويها الإبحار فلا تلتفت، الكل مسافر في ذاته.. مبعثر بين السطور، محصن ضد نظراتي الفضولية وضد الفراغ.. تعابير الوجوه تتقمص المحتوى حتى تصيره ويصعب فصلها عنه.. كل وجه تشكله الأحرف التي يغوص فيها وتبدل ملامحه على سجيتها، غوص وتلاش، صمت معبأ بالأفكار.. ممتلئ.. مكتف بنفسه.. هذا ما تفعله القراءة في النفوس، تحرر من بطء اللحظة ومن انتظار الوصول، سفر إلى مكان أرحب ومرافقة وجوه تروق..
فكرت: هل فطن مصطفى الحسناوي إلى كل ذلك وهو يطلق مبادرته الغير مسبوقة: أعط كتابا تحرر سجينا؟
كيف تجاوز التفكير النمطي في تغذية البدن نحو تغذية الروح؟
وكيف تبنى قناعة أن أفضل ما تهديه لسجين هو كتاب يعتقه من أسر الوحدة ويعيد بنائه.. فسخر لها وقته وجهده في سخاء ونبل؟
مصطفى الحسناوي..
صحفي وكاتب وناشط حقوقي، معتقل سياسي سابق، عاش بطء الدقائق خلف الأسوار، وزمن مثقل باجترار الذكرى وبمرارة الانتظار، وكأي قارئ نهم وجد الأنس بين دفتي الكتاب، بعد مغادرته الأسوار اتصل به أحد السجناء وطلب منه أن يرسل له كتبا مع عائلته، اتصالا أحيى بداخله فكرة قديمة تروم تقريب الكتاب إلى السجين، وولدت مبادرة إعط كتابا تحرر سجينا على مواقع التواصل حيث لقيت تفاعلا كبيرا، ووصل عدد المتطوعين إلى حوالي 60 متطوعا من 30 مدينة مغربية، والهدف كان تعميم إنشاء المكتبات داخل السجون.
مبادرة تلمع الكتاب وتعيد له البريق، وترسل رسالة فحواها أن القراءة ليست ترفا فكريا، إنها نشاط يومي نمارسه في كل الظروف والأحوال، وأن تبرعاتنا يجب أن تتجاوز شهوة البطون إلى تغذية العقول.
هي دعوة لتجديد الدماء والأفكار، فأن تهدي كتابا لسجين معناه أن تحمل إليه العالم، يطوف بين جنباته أنى شاء!
إعط كتابا.. تحرر عقلا من أسر جهل، وتحمي فكرا من الانغلاق.
إعط كتابا.. تبن إنسانا.
مبادرة هذا النبيل يجب أن تتوسع لتشمل المستشفيات والمدارس والمقاهي، فهناك سجناء مرض وسجناء جهل أيضا.. ونحن شعوب تحب القراءة، فإياكم أن يخدعوكم! والحديث المتكرر عن تقرير مؤسسة الفكر العربي الذي خلص أن متوسط قراءة الفرد العربي 6 دقائق سنويا مقابل 200 ساعة للفرد الأوروبي، هو إحصائية غير دقيقة في غياب بيانات رسمية حقيقية لمعدلات بيع الكتب وقرائتها في المنطقة، وتبقى بدون مصدر موثوق ولكنا كررناها لسنوات في جلد مقيت للذات وتأليه للآخر. ففي سنة 2017 أصدر بريندان براون تقريرا حول عادات القراءة في العالم، التقرير نشره موقع ” غلوبال إنغليش إديتينغ “، في هذا التقرير احتلت مصر المرتبة الخامسة في ساعات القراءة أسبوعيا بمعدل 7,5 ساعة، والسعودية المرتبة 11 بمعدل 6,8،متقدمتين على الولايات المتحدة وأستراليا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا.
إن مستوى القراءة عندنا منخفض ولا يلامس طموحاتنا في بناء الفرد، وكذا نسبة الأمية، غير أن الاتهام الموجه إلينا عبر سنوات بأنا لا نقرأ جد مبالغ فيه.
تحية لابن المغرب، الصحفي النبيل مصطفى الحسناوي على مبادرته الغير مسبوقة.
تحية لكل سجين عبر سنوات السجن على جناح فكر وكتاب.
وتحية من القلب لكم أحبائي
مساؤكم حرف وقلم