محمد أديب السلاوي
-1-
إن ما تحمله أخبار الصحف والإذاعات ووكالات الأنباء، يوميا وعلى مدار الساعة، عن أخبار الفساد الاجتماعي والمالي والإداري والسياسي في مغرب اليوم، يجعل الفساد متعدد الصفات أشبه ما يكون بمسلسل طويل عريض لا حد لحلقاته، وهو ما يمثل في الآن نفسه سببا ونتيجة حتمية لتلك الخصائص الجاحظة التي أصبحت مؤسسات الدولة، ومؤسسات الأحزاب، ومؤسسات المال العام، وحياة المجتمع، تتميز بها، وهو ما يعني أن الفساد متعدد الصفات أصبح هو المرتكز الأساس لتآكل المشروعية على المستوى السياسي والاجتماعي والإداري، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى فقدان السلطة في مستوياتها المتعددة لمضامينها ومصداقيتها ومشروعيتها.
وكلمة الفساد التي نخرت وتنخر الجسد المغربي منذ عقود عدة من الزمن، تتمتع في اللغة العربية بليونة فائقة. فهي سهلة الاستيعاب، ليست عصية الفهم، ولكنها أصبحت في وضعنا كبلد يعاني من سلبيات التخلف والأمية والبطالة والتهميش عصية الهضم، باعتبارها تجسد الطعن في ظهر الأمة، والتلاعب بمصالحها وقيمها، وتكسير مدونة سلوكها الأخلاقية والاجتماعية.
والفساد في الحياة المغربية كلمة قاسية لا تختفي إلا لتظهر من جديد، بسبب موجاته المتتالية والمتعاقبة التي أغارت على البلاد والعباد خلال عهد الاستقلال، حيث طبعت باستمرار السياسات الإنمائية والمشاريع الإصلاحية، وهو ما ثبت المغرب على لائحة الدول المتخلفة والفقيرة، وجعله واحدة من الدول الأكثر تعرضا للاهتزاز والتصادم… فالفساد الذي يربط بين الاختلاسات المباشرة وغير المباشرة للمال العام من طرف ذوي السلطة والنفوذ، ويربط بين نهب الامتيازات والأوراش العمومية للدولة، وبين الفساد الانتخابي، وفساد المؤسسات الحزبية، وفساد الرشوة واستغلال النفوذ وتشريع الرواتب الضخمة والعالية، يتوازى مع كل انحطاط وتدهور… لا ترعاه سوى الأنفس المريضة التي فقدت بصيرتها وتخلت عن قيم مواطنتها.
هكذا أصبح الفساد في الحياة المغربية قاعدة ليس لها استثناء، يتجاوز شكل الظاهرة ليتحول إلى آلية من آليات التسيير الإداري والسياسي والاقتصادي، بعد أن تغلغل في المؤسسات والمشروعات، وحولها إلى مقاولات للاغتناء اللامشروع، والتوزير، والتوظيف اللامشروع وتسلق المناصب والقيادات السياسية خارج الشرعية والموضوعية.
-2-
وعن أسباب الفساد وأصوله، تتفق العديد من البحوث الأكاديمية على أن “السلطة السياسية” هي أصل وهوية كل فساد، وتعلل ذلك بالقرارات والتصرفات السياسية للعديد من القادة والمسؤولين الذين أدت تصرفاتهم إلى تخريب المجتمعات وقيمها، وإلى إشاعة التسفل بين الشرائح والفئات… فالسياسة لا تنحصر آثارها في القطاع السياسي، بل تمتد إلى الأفراد والمؤسسات والمجتمعات والقطاعات، خاصة وأن فاعليتها في كل الأمم والشعوب تعتمد على “النخبة” التي تعمل على توزيع المصالح والمسؤوليات والأموال فيما بينها، والمتحكمة في المجتمع والقيم والأخلاق، وهو ما يجعل “الفساد” ابنا شرعيا للسياسة ولنخبتها.
وبتجربة الشعوب التي نخرها سوس الفساد (ولنا في الوطن العربي بعض أصنافها)، فإن النخبة السياسية “المخدومة” التي تصل السلطة خارج المشروعية أو بواسطة انتخابات مزورة، أو في ظل ديمقراطية مغشوشة، تعطي الفساد قدرة على التوالد والتنامي والتجديد، وتزوده “بالآليات” التي تمكنه من فرض نفسه على البلاد والعباد ليلقي بظلامه على مصالح الناس أينما وجدوا وكيفما كانت حالتهم الاجتماعية والمادية.
وبحكم العلاقات التي تفرضها السياسة على نخبتها، تصبح المصالح بين أفراد هذه النخبة خارج الشرعية والقانون. فعلى يد هذه النخبة أهدرت قيم القانون في العديد من بلدان العالم الثالث. وصودرت الحريات العامة، وغيبت الرقابة القضائية والشعبية وألغيت مؤسسات المجتمع المدني، لتصبح “السياسة” مصدرا أساسيا للفساد في أصنافه ومستوياته المختلفة.
إن اتساع الأدوار السياسية والاقتصادية والمالية للفاعلين السياسيين قد أدى في المغرب، وفي أقطار عديدة من العالم، إلى اتساع مواز لمنظومة الفساد، وبالتالي أدى إلى انهيارات اقتصادية وأخلاقية ما زالت آثارها السلبية جاثمة على الأرض.
ولقد كشفت العديد من الدراسات الأكاديمية أن الفساد الأخلاقي/السياسي/ الإداري/ المالي هو فساد مترابط ومتداخل مع ظواهر الإجرام الأخرى المتصلة بالمجتمع ومؤسساته المختلفة، وأعني بها ظواهر تجارة وتهريب المخدرات، وتجارة الجنس البشري، وتشغيل الأطفال في مافيات العهارة المنظمة. وكشفت هذه الدراسات أنه بسبب التراكم أصبح للفساد في العالمين المتقدم والمتخلف على السواء تقاليده ومؤسساته وسلطاته، لتصبح مكافحته صعبة ومستحيلة في العديد من الدول؛ إذ بلغ اليأس حدا جعل العديد من الناس بهذه الدول يسلمون بأن المكافحة لن تكون سوى ضرب من العبث، أو ربما كانت كالاعتراض على قوانين الطبيعة، بعدما أصبح الاعتياد على الفساد سنة أو نهجا في العيش وفي المعاملات والخدمات وفي السياسات، له القدرة أكثر مما للقوانين التي تكافحه أو تنهى عنه.
– 3 –
في جهات عديدة من العالم الثالث، منها المغرب، يتداخل الفساد مع القطاعات المنتجة والأساسية في الدولة، ويجعل من نفسه منظومة مترابطة ومتداخلة مع ظواهر الإجرام الأخرى المتصلة بالمجتمع والأخلاق والسياسة… ليصبح (الفساد) ليس فقط هو الرشوة وسرقة المال العام والمحسوبية والزبونية والظلم، التي أغرقت بلدان عديدة من العالم الثالث في براثين التخلف، ولكن أيضا كل صفة من صفات الرذيلة والشر والسوء والغبن التي تسحق المجتمع وقيمه الروحية والمادية.
وحسب منطق الدراسات العلمية والاجتماعية، فإن الفساد عندما يتخذ شكل “المنظومة” يتحول إلى أداة فاعلة للقهر والضعف والهشاشة والتهور، وإلى مرجعية مركزية للتخلف الشامل الذي يحبط ويقضي على كل إصلاح وعلى كل انتقال.
وعلى أرض الواقع، ساهمت “منظومة الفساد” إلى حد بعيد في إحباط وتآكل المشروعية السياسية لعلاقة السلطة بالمجتمع في العديد من بلدان العالم الثالث، مما أدى إلى فشل مبادراتها الديمقراطية ومبادراتها في الاستثمار الخارجي، وإلى استئثار جهة أو جهات معينة بالثروة الوطنية وبالامتيازات الاقتصادية والسياسية، وبالتالي تعميق الهوة بين الشعوب وبين طموحاتها في الانتقال والإصلاح والتقدم.
أينما وجد الفساد وجد المفسدون
والمفسدون هم أرباب الفساد، هم الصف “القوي” الذي يحاصر الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة والحرية ودولة الحق والقانون والمواطنة، الصف الذي يدفع إلى طغيان قانون القوة بدل قوة القانون، وإلى تمركز السلطة والمال والامتيازات في جهة واحدة، وإلى تغييب المراقبة والمساءلة، وإلى اتساع رقعة التسفل والبغاء والانحلال الخلقي، وإلى توسيع رقعة الفقر والفاقة والقهر.
المفسدون هم الذين يجذبون أوطانهم إلى الأسفل لتغرق في تخلفها وتناقضاتها أمام العالم، وهم الذين يشكلون قوة خفية قاهرة تعتمد كل أساليب الاحتيال والقهر والتجاوز والإفساد والاستغلال من أجل تركيز أنفسهم في القطاعات والمجتمعات، وتعميق الهوة بين أوطانهم والإصلاح والتقدم الحضاري.
والمفسدون قبل ذلك وبعده، هم فئة من السياسيين والإداريين والاقتصاديين والوزراء والمسؤولين أصحاب القرار الذين باعوا ضمائرهم للشيطان، لا تميزهم عن الآخرين ــــ في الإدارات العمومية، وفي الأبناك وصناديق الدولة، والأحزاب السياسية والجماعات المحلية، القروية والحضرية، سوى قدرتهم على اللصوصية، وعلى صياغة القرارات الفوقية الخاطئة والمتعثرة التي تخدم مصالحهم الخاصة، وقدرتهم على احتقار شعور الأغلبية العظمى من المواطنين وامتهانهم واستعبادهم.
يعني ذلك بوضوح أن الفساد ليس مقدورا علينا كما يدعي ذلك صناعه، بل هو إرادة بشرية تتقصد الفساد والإفساد، ترعاه وتزكيه وتبرره وتدفع به ليكون قدرا محتوما. إنه “صناعة” لا أخلاقية يحاول أصحابها الحصول من خلالها على أكبر قدر من المكاسب الحرام، والامتيازات الحرام، والأموال الحرام، والسلط الحرام.
والسؤال الصعب الذي يحاصرنا خارج كل الأقواس: أية مقاومة، أية استراتيجية، أية إصلاحات تخلصنا من هذا الجحيم، جحيم الفساد والمفسدين؟